تشهد السياسة الخارجية السورية مرحلة تحول سريعة. فخلال أسابيع قليلة، تنقلت دمشق بين واشنطن وبكين حيث وقعت اتفاقيات مع ترامب حول "مكافحة الإرهاب" كما سعت لإعادة ترميم علاقاتها مع الصين التي بقيت حذرة من النظام السوري الجديد. هذه الزيارات كشفت عن ملفات لطالما حاولت السلطة الجديدة تجاهلها ومن بينها ملف المقاتلين الإيغور الموجودين على الأراضي السورية منذ الحرب، والذين تعتبرهم بكين تهديداً أمنياً لها ومادة دعائية خطرة تستغلها الولايات المتحدة ضدها.
وهنا يبرز السؤال الجوهري: هل يمكن أن تقدّم سوريا تنازلات مهمة للصين، تصل إلى حدّ تسليم الإيغور، مقابل فتح صفحة اقتصادية وسياسية جديدة؟ أم أن دمشق ستبحث عن تسوية أقل كلفة؟
التحوّل السوري بعد زيارة واشنطن
زيارة أحمد الشرع إلى الولايات المتحدة شكّلت فاصلاً في مقاربة دمشق لعلاقاتها الدولية. فقد قدّمت الإدارة الأمريكية "عرضاً جديدًا" للتعاون، يقوم على إعادة تعريف الإرهاب بما يخدم أجندة واشنطن الإقليمية، وسط انخراط سوري في هذا الخطاب، رغم أن ممارسات الطرفين تُظهر أن الإرهاب هو أداتهما.
هذا التقارب أعاد خلط الأوراق. فمن جهة، تحاول سوريا استعادة شرعيتها الغربية وإعادة تعريف نفسها بحلة جديدة. ومن جهة أخرى، تدرك أن هذا التوجه يثير قلق الصين التي لطالما تعاملت مع سوريا ضمن معادلة استقرار يقوم على عدم السماح بوجود جماعات يمكن أن تؤثر على بكين. لذا جاءت زيارة وزير الخارجية السوري للصين فوراً بعد زيارة واشنطن في محاولة لاحتواء هذا القلق قبل أن يتحول إلى أزمة سياسية واقتصادية واسعة لا تخدم سوريا حالياً.
مكامن القلق الصيني
الصين تنظر إلى ملف المقاتلين الإيغور في سوريا باعتباره أكثر من مسألة أمنية. فهو يرتبط بمواجهة الحملات الغربية التي تتهم بكين بارتكاب "انتهاكات بحق الأقلية الإيغورية"، وبالتالي فإن وجود مقاتلين إيغور خارج السيطرة قد يمنح خصوم الصين مادة إضافية لاستخدامها في المحافل الدولية.
وتتحدث التقديرات عما يقارب الـ 3000 مقاتل متواجدين في الشمال السوري، بعضهم قاتل في صفوف الجماعات الإرهابية مثل داعش. وتعتبر بكين أن أي نظام سياسي يتيح لهؤلاء مساحة للتحرك الإعلامي أو العسكري على حدّ سواء، إنما يساهم بشكل مباشر في تهديد الأمن القومي الصيني.
أكثر ما يقلق الصين الآن ليس العدد بحد ذاته، بل كون هؤلاء المقاتلين اندمجوا خلال السنوات الماضية في البيئة السورية التي عانت من كل أشكال الإرهاب، ما يجعل التعامل معهم أكثر تعقيداً بسبب ما نشأ لديهم من أفكار متطرفة وقناعات.
ماذا تريد الصين؟
الصين موقفها واضح فإما تسليم المقاتلين الإيغور، أو تقديم ضمانات صارمة تمنع أي نشاط لهم داخل سوريا.
بالنسبة لبكين، هذا ليس مطلباً، بل شرطاً أولياً قبل أي حديث عن الاستثمارات أو إعادة الإعمار. فالصين، التي استثمرت في دول المنطقة عشرات المليارات، ترى في سوريا قاعدة استراتيجية مهمة لمشاريع البنية التحتية المقترحة، لكنها في الوقت نفسه لن تغامر بمصالحها القومية.
وعلى الرغم من رغبة بكين في تطوير علاقاتها مع دمشق الجديدة — حتى بعد ميلها نحو الغرب — إلا أن ملف الإيغور يبقى نقطة تعقيد أساسية، لأنه يتصل مباشرة بصورة الصين في الداخل والخارج.
بينما أعلنت دمشق رسمياً أنها لن تسلّم أي مقاتل أجنبي. وأعلنت عن وجود آلية ثلاثية سورية–تركية–صينية لضبط الحدود والأنشطة المرتبطة بالمقاتلين الإيغور. في إشارة إلى تدوير الحل ليكون أقل حدة من الرفض الكلي. لأنه وبالرغم من التقارب مع واشنطن، لا تستطيع سوريا التضحية بعلاقتها مع دولة تملك قدرة استثمارية هائلة وتاريخاً من النفوذ في مشاريع البنية التحتية داخل البلاد.
فالصين، بخبرتها الاقتصادية وقدرتها على تحريك رؤوس الأموال، تمثّل عنصراً مهماً في ملف إعادة الإعمار، خصوصاً في ظل ضعف الموارد السورية.
كما تدرك دمشق أن بكين تمتلك تأثيراً دبلوماسياً في المؤسسات الدولية، وقد استخدمت في السابق حق النقض لحماية النظام السابق.
السيناريوهات بشأن الإيغور
يمكن أن تشمل السيناريوهات التي تتخذها سوريا على:
عدم التسليم مع ضمانات أمنية مشددة
هذا هو السيناريو الأكثر ترجيحًا. بعد أن تتكفل السلطة الحالية بضبط تحركات الإيغور، ومنع استخدام الأراضي السورية لأي نشاط معادٍ للصين، دون الدخول في مواجهة مباشرة مع الجماعات المتواجدة في الشمال.
التسوية الثلاثية
قد تلعب تركيا دوراً في نقل بعض المقاتلين أو تحييدهم، مقابل تفاهمات سياسية أو أمنية، وهو سيناريو قد تقبله بكين إذا ضمنت توقف أي نشاط موجه ضدها.
التسليم الكلي
يبدو احتمالاً ضعيفاً، لأنه غير مربح فعلياً للشرع.
المعطيات تشير إلى أن دمشق لن تسلّم الإيغور إلى الصين، لكنّها مستعدة لتقديم تنازلات تُرضي بكين وتفتح الباب لتعاون اقتصادي واستثماري واسع.
الكاتب: غرفة التحرير