الأربعاء 19 تشرين ثاني , 2025 03:11

بين النص والواقع: كيف يحوّل القرار الأميركي غزة إلى مختبرٍ للشرعية الدولية؟

ترامب ومجلس الأمن الدولي

من الصعب مقاربة القرار الأميركي الأخير في مجلس الأمن بشأن غزة باعتباره خطوة نحو "السلام" أو "الاستقرار". فمثل هذه التعابير، التي تكرّرها الدبلوماسية الأميركية بلا انقطاع، تحوّلت منذ زمن بعيد إلى جزء من القاموس الدعائي الذي يستخدم لتبرير القوة العارية، لا لتقييدها. ما حدث في مجلس الأمن ليس أكثر من محاولة جديدة لإعادة هندسة العلاقات الدولية بما يتوافق مع تصوّر واشنطن لدورها العالمي، أي دور القوة التي تمنح الشرعية أو تسحبها وفق حاجات سياساتها، لا وفق أي معيار قانوني أو أخلاقي.

في الظاهر، يقدّم النص الأميركي نفسه كصيغة "وسط" بين الأطراف المتصارعة: قوة دولية، مجلس سلام، ترتيبات أمنية انتقالية، وممرات إنسانية. لكن هذه اللغة المحايدة تخفي خلفها ما هو جوهري: تحويل غزة إلى فضاء اختبار — مختبر سياسي وأمني — تجري فيه الولايات المتحدة تجاربها حول كيفية فرض وصاية دولية تحت غطاء أممي، بينما تستمر في دعم الهيمنة "الإسرائيلية" بصورة معلنة أو غير معلنة، ولكنها واضحة في بنية القرار، ومضمونه، والنتائج التي يسعى إلى تكريسها.

من غزو العراق إلى غزة: إعادة تدوير الشرعية الدولية

السوابق التي تبرز في المشهد ليست جديدة. ففي العراق عام 2003، كانت الآلية ذاتها تقريباً: قوة عسكرية أميركية تنفّذ واقعًا جديدًا بالقوة، ثم يعود صانعو هذا الواقع إلى مجلس الأمن للحصول على "اعتراف" دولي به، بما يحوّل الاحتلال إلى عملية "إعادة بناء" أو "إدارة انتقالية". في غزة، تكرر واشنطن المنهج نفسه، ولكن بتعديلات تكتيكية:

– لا قوات أميركية مباشرة،

– بل قوة دولية بقرار أممي،

– تقوم بوظائف تتطابق حرفياً مع المطالب الأمنية الإسرائيلية.

وهذا ليس صدفة، بل نتاج رؤية ترى أن القانون الدولي ليس منظومة من القواعد، بل أداة يمكن استخدامها لإعادة صياغة نتائج الحروب بما يخدم الهيمنة الأميركية.

السلام بالقوة: المفهوم الذي يحكم القرار الأميركي

في قلب القرار، كما في جوهر العقيدة الترامبية، يقف مفهوم "السلام بالقوة". وهو مفهوم يُقدَّم كما لو كان بديلاً عن عالم الفوضى، بينما هو في الحقيقة إعادة تسمية للقسر العسكري والسياسي.

فالقرار لا يتعامل مع غزة كقضية تحرّر وطني أو كشعب له حقوق غير قابلة للتصرف، بل كـ"مشكلة أمنية" تحتاج إلى إدارة. وبذلك، تتحول الحقوق التاريخية — بما فيها الحق في تقرير المصير والدولة — إلى متغير ثانوي يخضع للتقدم في "الإصلاحات"، كما تحدده واشنطن، لا كما يحدده الفلسطينيون.

هذا هو جوهر المقاربة الأميركية: حقوق الشعوب ليست ثابتة، بل مشروطة بسلوكها السياسي وتوافقها مع الرؤية الأميركية للنظام الدولي.

مجلس الأمن كأداة لا كسلطة

في النص الأميركي، يظهر مجلس الأمن ليس بوصفه مؤسسة مستقلة، بل كهيكل فارغ يُعاد ملؤه بالمفردات المناسبة لتبرير التوجهات الأميركية. ومع أن واشنطن استخدمت الفيتو سابقاً لإسقاط ستة مشاريع قرارات تتعلق بغزة، فإن لجوءها إلى المجلس اليوم لا يعكس احتراماً للقانون الدولي، بل سعياً لاستثمار طابع المجلس الرمزي لإعطاء قرارها قيمة سياسية مضاعفة.

وهنا تبرز مفارقة لافتة: الولايات المتحدة هي التي تمنع مجلس الأمن من لعب دوره الطبيعي، ثم تعود إليه طالبةً اعترافاً بدور أرادت له منذ البداية أن يكون حصرياً لها.

ما يحدث إذاً ليس "عودة الشرعية الدولية"، بل إعادة تدوير لها بحيث تصبح مرآة تعكس القوة الأميركية لا القانون.

القوة الدولية: إعادة تعريف الاحتلال بوسائل ناعمة

يشير القرار إلى "قوة استقرار دولية" تعمل على: (تأمين الحدود، نزع السلاح، تدمير البنية العسكرية للمقاومة، إدارة الممرات الإنسانية). وهذه الوظائف ليست سوى إعادة صياغة لغوية لمهام الاحتلال نفسه.

الفارق الوحيد هو أن القوة لن تحمل "العلم الإسرائيلي"، بل علماً دولياً، بينما تبقى مصالح "إسرائيل" هي البوصلة الحاكمة.

فالانسحاب "الإسرائيلي" مشروط بـ"استقرار أمني مشترك"، وهي عبارة تسمح بتمديد الوجود العسكري إلى ما لا نهاية، لأن "الاستقرار" معيار مطّاطي، لا يقاس إلا من خلال الرؤية الأمنية "الإسرائيلية" ذاتها.

دور الدول العربية: من الفاعل إلى شاهد الزفاف الدولي

إن تبنّي دول عربية وإسلامية — الإمارات، السعودية، قطر، مصر، إندونيسيا — للموقف الأميركي يضيف بعداً آخر للأزمة:

فهي دول اختارت الاصطفاف مع القرار الأميركي ضد مشروع روسي كان يستند إلى المبادئ القانونية المتعارف عليها منذ عقود، بما فيها حل الدولتين وقرارات الشرعية الدولية.

هذا التناقض يكشف انتقالاً عميقاً في موقع هذه الدول:

من موقع "الحريص على الحقوق الفلسطينية"، إلى موقع "الوسيط الذي يسهّل الترتيبات الأميركية"، ولو على حساب الحقوق ذاتها.

وهذا التحول لا يمكن فصله عن بنية التحالفات الجديدة، خصوصاً في ظل مسار التطبيع الذي يهدف إلى إعادة دمج إسرائيل في المنطقة تحت سقف "السلام الإبراهيمي".

حماس والسلطة: جدلان لا يلتقيان

رد الفعل الفلسطيني يعكس الانقسام البنيوي نفسه:

– السلطة رحّبت، لأنها تبحث عن أي إطار يعيدها إلى موقع فاعل.

حماس رفضت، لأنها ترى في القرار وصاية دولية تكرّس الفصل بين غزة والضفة.

لكنّ الخلاف هنا يخفي جوهراً أكبر:

فالقرار لا يعترف فعلياً بتمثيل الشعب الفلسطيني، بل يخضعه لآلية "إصلاحات" تُحدَّد من الخارج، وكأن الفلسطينيين مجرد "متلقّي تعليمات" لا أصحاب مشروع سياسي.

نهاية الشرعية الدولية أم استيعابها؟

ما يكشفه القرار ليس موت الشرعية الدولية، بل استيعابها بالكامل.

فالشرعية التي كانت تقوم على القانون والحقوق، أصبحت اليوم آلية لإنتاج "اعترافات" متسلسلة تُمنح لمن ينسجم مع القوة الأميركية.

وبذلك تصبح غزة ليس فقط ساحة صراع، بل ساحة اختبار:

هل يمكن للقانون الدولي أن يُستخدم ضد مبادئه؟

وهل يمكن إنتاج شرعية تعاكس تماماً الحقوق التي يُفترض أن تحميها؟

بين النص والواقع

في التحليل الأخير، ما يفعله القرار الأميركي هو تحويل غزة إلى مختبر تجري فيه واشنطن تجربة جديدة:

– كيف يمكن استخدام مجلس الأمن لإعادة إنتاج نتائج الحرب؟

– كيف تُفرض وصاية دولية على شعب تحت الاحتلال من دون أن تسمى وصاية؟

– وكيف يمكن تحويل المقاومة إلى "مشكلة أمنية" لا إلى حركة تحرّر؟

بين النص والواقع فجوة هائلة.

النص يتحدث عن "السلام". أما الواقع، فيحمل مشروعاً لاحتكار القوة، وإعادة كتابة قواعد النظام الدولي بما يتناسب مع منطق الإمبراطورية وليس مع منطق العدالة.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]




روزنامة المحور