منذ اللحظة الأولى لوقف إطلاق النار الأخير في غزة، كان واضحاً أن الاحتلال الإسرائيلي لا يرى في الاتفاق سوى محطة تكتيكية لالتقاط الأنفاس، لا أكثر. فبينما تتنفس غزة المكلومة رمقاً من الهدوء المشوب بالخوف، تمضي الجرافات "الإسرائيلية" شرق القطاع في عمل محموم، لا يُرى إلا من بعيد، خلف ما يُعرف بـ"الخط الأصفر" — ذاك الشريط الصامت الذي يبتلع الأرض شبراً بعد شبر، ويعيد تعريف الخرائط والحدود والوقائع على الأرض، وكأن الحرب لم تتوقف يوماً. لكن ما الذي يجري حقاً خلف الخط الأصفر؟ ولماذا يبدو وكأن الاحتلال، بعد كل هذا الدمار والدم، لم يكتفِ بعد؟
وهل نحن أمام ولادة صيغة جديدة من الاحتلال المباشر، أم أمام اختبار "إسرائيلي" مدروس لصبر المقاومة الفلسطينية وقدرتها على الصمود في مرحلة ما بعد الحرب؟
خلف الخط الأصفر… هندسة جديدة للاحتلال
تُظهر المعطيات الميدانية أن ما يجري في المناطق الشرقية من غزة ليس مجرد نشاط هندسي أو عمليات تمشيط اعتيادية، بل عملية إعادة بناء ميدانية مدروسة، تتضمن إنشاء مواقع عسكرية ثابتة، ونصب كاميرات مراقبة ومناظير ليلية ومناطيد مراقبة ضخمة تمتد في مدى بصري يغطي معظم القطاع من البحر حتى شارع صلاح الدين.
إنها عملية "هندسة أمنية" شاملة، لا تهدف فقط إلى حماية الحدود، بل إلى فرض نظام مراقبة دائمة وشبه استعمارية على القطاع بأكمله، تحت ذريعة "المناطق العازلة" التي طالما استخدمتها "إسرائيل" كواجهة لتوسيع سيطرتها.
الاحتلال، من خلال عملياته المكثفة خلف الخط الأصفر، يسعى إلى إنشاء "حزام أمني" بعمق كيلومتر على الأقل، يمتد على طول الجبهة الشرقية والشمالية، وهو ما يعني فعلياً مصادرة أكثر من نصف مساحة غزة التاريخية. هذا الشريط الذي يبدو في العلن كـ"منطقة خالية" هو في الواقع بنية تحتية لاحتلال دائم:
منصات آلية لإطلاق النار، محطات رادار، نقاط مراقبة متقدمة، وأنفاق عسكرية "إسرائيلية" مضادة لشبكات المقاومة، وكل ذلك يجري وسط تعتيم كامل، يمنع سكان القطاع أو حتى الصحافيين من الاقتراب أو التوثيق.
بهذا المعنى، فإن الخط الأصفر ليس مجرد حدود أمنية مؤقتة، بل مشروع لإعادة هندسة الجغرافيا السياسية لغزة، بما يضمن تفكيك وحدتها المكانية وتقطيع أوصالها، وتحويلها إلى كانتونات بشرية محاصرة يمكن السيطرة عليها بالنيران عن بُعد.
فلسفة السيطرة عبر الدمار
إذا كانت فلسفة التدمير "الإسرائيلية" في السنوات الماضية تقوم على محو الذاكرة وتهشيم البنية الاجتماعية الفلسطينية، فإن ما يحدث اليوم هو امتداد لتلك الفلسفة ولكن بلغة أكثر "حداثة".
التفجيرات الليلية التي تهز المناطق المحاذية للخط الأصفر ليست مجرد إزالة لأنقاض أو تفكيك لأنفاق، بل محو متعمّد لآثار المكان، لطمس معالم البيوت والطرقات والأحياء القديمة، وكأن الاحتلال يريد أن يقطع الرابط الأخير بين الفلسطيني وأرضه، بين الجغرافيا والذاكرة.
هذا السلوك ليس عسكرياً فحسب، بل يحمل بعداً نفسياً وسياسياً عميقاً. فحين يُحرم الفلسطيني من رؤية بيته ولو مدمّراً، يُقتلع رمزياً من أرضه. هذه هي جوهر الحرب "الإسرائيلية" الجديدة: احتلال الوعي قبل الأرض.
أميركا و"المرحلة الثانية"… هندسة الإبقاء لا الحل
على وقع هذه التحركات الميدانية، تتقدم خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مسار موازٍ، محاطة بالضباب والغموض. في ظاهرها، الخطة تهدف إلى تثبيت "الاستقرار الدائم" في غزة، لكنها في جوهرها إعادة تدوير للفكرة القديمة ذاتها: تحويل الاحتلال إلى إدارة أمنية متعددة الأطراف، تُغلف بلغة إنسانية وإعمارية.
فـ"المرحلة الثانية" من الخطة، كما تسربت تفاصيلها، تشترط معالجة ملف مقاتلي "حماس" في رفح والشجاعية، وضمان انسحاب منظم للكتائب من مناطق محددة مقابل وعود بالإعمار، وهي مقايضة تبدو في ظاهرها "سياسية"، لكنها في حقيقتها ابتزاز وجودي للمقاومة: إمّا التخلي عن السلاح، أو البقاء تحت الحصار إلى أجل غير مسمى.
غير أن المأزق الأميركي أكبر من مجرد تفاوض. فالولايات المتحدة لا تدير أزمات الشرق الأوسط من منطلق الحل، بل من منطلق "الإدارة الدائمة للفوضى" التي تبقي الجميع تحت الحاجة إليها.
من هنا، يبدو أن الخط الأصفر هو الوجه الميداني لخطة ترامب: تثبيت واقع أمني على الأرض يجعل أي حديث عن تسوية لاحقة محكوماً سلفاً بقبول السيطرة "الإسرائيلية".
خيارات المقاومة… بين الصبر والاستنزاف
في مقابل هذه الوقائع الثقيلة، تبدو خيارات المقاومة الفلسطينية معقّدة ومحدودة في آنٍ معاً. فالمقاومة، التي أنهكتها حرب الإبادة الأخيرة، تدرك أن أي تصعيد جديد الآن سيعيد غزة إلى نقطة الصفر، في لحظة يحاول فيها الناس التقاط أنفاسهم وإعادة بناء ما تبقّى من حياتهم.
ولذلك، اختارت المقاومة في هذه المرحلة سياسة المراقبة والانتظار، ترصد تحركات الاحتلال بدقة، وتوثّق خروقاته المتكررة للاتفاق، بانتظار اللحظة المناسبة للرد.
لكن هذا الخيار، وإن بدا عقلانياً، يحمل في طياته مخاطر سياسية كبيرة. فإسرائيل تراهن على الزمن: كل يوم يمرّ دون مواجهة عسكرية يسمح لها بتكريس واقع جديد خلف الخط الأصفر. الصمت هنا يتحول إلى اعترافٍ غير مباشر بالحدود الجديدة، وهذا ما تدركه المقاومة جيداً.
لذلك، لا يمكن استبعاد الخيار الثاني الذي بدأ يلوح في الأفق: حرب استنزاف محدودة داخل مناطق الخط الأصفر نفسها، كما حدث في رفح مؤخراً، حين تسللت وحدات مقاومة إلى عمق المنطقة المحتلة وأوقعت قتلى وجرحى في صفوف قوات النخبة "الإسرائيلية". هذه العمليات، رغم كلفتها العالية، تحمل رسالة واضحة: غزة لن تقبل بالاحتلال مجدداً، لا صراحةً ولا ضمناً.
في المقابل، يعلم المقاومون أن أي مواجهة جديدة ستستدعي انتقاماً وحشياً ضد المدنيين، كما حدث بعد عملية رفح الأخيرة. ومن هنا، فإن المعادلة الأخلاقية والسياسية للمقاومة باتت أكثر تعقيداً من أي وقت مضى: كيف تردّ من دون أن تُعطي الاحتلال ذريعة لتدمير ما تبقّى من القطاع؟
ومع تواطؤ بعض العواصم الغربية والعربية، تتحول غزة إلى مختبر مفتوح لتجريب هذا النمط الجديد من الاحتلال: حروب متقطعة، اتفاقات مؤقتة، إعادة إعمار مشروطة، ومناطق عازلة تُرسم بجرافات الليل.
ما بعد الخط الأصفر… بين الوهم والوعي
ربما تراهن إسرائيل على أن الجغرافيا يمكن أن تُنسى حين تُمحى، لكن التجربة الفلسطينية أثبتت عكس ذلك تماماً.
فكل بيت يُهدم يتحول إلى ذاكرة حية، وكل جدار مدمّر يصبح نصاً في السردية الفلسطينية.
الخط الأصفر الذي ترسمه الجرافات اليوم قد يصبح غداً خطاً أحمر في وعي الأجيال، يرمز إلى اللحظة التي قررت فيها غزة أن تكتب بدمها من جديد معنى الحرية.
لقد فشل الاحتلال في تحويل الفلسطيني إلى رقم في معادلة أمنية، لأنه لم يفهم يوماً أن الفلسطيني لا يقيس الحياة بالمساحة بل بالكرامة.
وإذا كان الخط الأصفر هو محاولة "إسرائيلية" جديدة لترويض الجغرافيا، فإن الردّ الفلسطيني عليه سيكون، كما كان دائماً، في إعادة تعريف المعنى:
أن تبقى على الأرض ولو خيمة، أن تبني الذاكرة ولو على الركام، وأن تحوّل الصبر من انتظارٍ إلى فعل مقاومة.
في النهاية، "القوة يمكنها أن تفرض صمتاً مؤقتاً، لكنها لا تستطيع أن تصنع سلاماً".
وهذا هو درس غزة الأبدي: قد يهدم الاحتلال الحجر، وقد يمحو الطريق، لكنه لن يستطيع أبداً أن يرسم خطاً يفصل الفلسطيني عن حقيقته، لأن الوعي - لا الجغرافيا - هو الميدان الأخير للمقاومة.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]