شكّل هجوم السابع من أكتوبر 2023، نقطة تحوّل مفصلية في بنية الأمن القومي الإسرائيلي، إذ أدى إلى انهيار الركائز التقليدية للعقيدة الأمنية التي قامت لعقود على مبادئ الردع، الإنذار المبكر والحسم السريع. ومنذ ذلك التاريخ، دخل الكيان المؤقت مرحلة إعادة صياغة شاملة لعقيدته الأمنية والعسكرية، تتسم بطابع هجومي وقائي، وبإدارة متزامنة لعدة ساحات صراعية، مع الانتقال من مفهوم الردع التقليدي إلى الردع القائم على التدمير المسبق.
وفي موازاة هذا التحوّل الأمني، سعت الحكومة الإسرائيلية إلى استثمار حالة الفراغ والتشتت الإقليمي والدولي التي أعقبت العملية لفرض وقائع جديدة على الأرض، انطلاقًا من قناعة بأن اللحظة الراهنة تمثّل فرصة تاريخية لتوسيع المشروع الاستيطاني وتعزيز الأجندات الأمنية والسياسية الصهيونية. وقد تجسّد هذا التوجه في تكثيف النشاط الاستيطاني وتسريع السيطرة الميدانية على الأراضي، وهو ما عبّر عنه وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير بقوله: "الأمن يبدأ من الأرض، والاستيطان هو السلاح الأهم في حربنا ضد الإرهاب"، فيما أكد وزير المالية بتسلئيل سموتريتش أن العمليات العسكرية الحالية تمثل "المرحلة الأولى من خطة أشمل تهدف إلى تحقيق السيطرة الكاملة على أرض إسرائيل التاريخية".
تهدف هذه الورقة المرفقة أدناه إلى تحليل التحولات الجوهرية في هذه الاستراتيجية، تداعياتها وأثارها، وقياس مدى نجاعتها على مختلف المستويات.
خلاصة الدراسة:
تشكل الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية التي تبلورت بعد طوفان الأقصى تحوّلًا بنيويًّا في التفكير الأمني: إذ انتقلت من منطق إدارة التهديد إلى نهج يهدف إلى "هندسة الواقع" عبر ما يمكن تسميته بـ"الهيمنة المتكاملة متعددة الأبعاد"، أي الدّمج بين الوقاية الهجومية والاستنزاف المستمر والحرب المعرفية والقدرات التكنولوجية والاستخباراتية، إلى جانب ضغوط دبلوماسية واقتصادية، على أساس أن الضّربات المكثّفة والضغط المتزامن على أكثر من جبهة سيمنع "محور المقاومة" من استعادة توازنه. تجسّد هذه الاستراتيجية مزيجًا من أدوات ميدانية، تفكيك البُنى العسكرية وفرض مساحات وجغرافيا حكم، وسياسات إدارية تهدف إلى إعادة تشكيل المساحات الحدودية والضوابط على إعادة الإعمار، مصحوبة بحشد جهود لمواجهة السرديات المضادة في الفضاء المعلوماتي الدولي. ومع أنّ التطبيق العملي أحرز نجاحات تكتيكية ملموسة (دقّة ضربات، تعطيل سلاسل إمداد، وإحباط تهديدات فورية)، فقد كشفت التجربة أيضًا عن ثغرة استراتيجية جوهرية: تآكل القدرة على تحقيق "حسم سريع" وتحويل التفوق التكتيكي إلى إنجاز استراتيجي مستدام، بفعل مزيج من عوامل عملية وسياسية ودولية. هذا النقص في القدرة على الحسم السريع لا يقتصر على حدود الميدان العسكري فحسب، بل يمتدّ إلى محدودية الموارد البشرية والاحتياطية، الضغوط السياسية الداخلية، تآكل الشرعية الدولية، والأعباء الإنسانية والاقتصادية المتزايدة التي تقلّص هامش المناورة وتزيد من مخاطر انزلاق التصعيد إلى أبعاد إقليمية تفوق قدرة الكيان على التحمل. وبذلك، تظلّ محاولة تحويل التفوق التكتيكي إلى إنجاز استراتيجي مستدام غير مكتملة، مما يضع الكيان أمام معادلة هشّة بين استباق الخطر وخطر توليد بيئات صراعية جديدة قد تقوّض ردعه داخليًا وخارجيًا.
لتحميل الدراسة من هنا