في كل مرة يُفتح فيها ملف التفاوض بين لبنان والكيان "الإسرائيلي"، تعود إلى السطح معادلة ملتبسة تجمع بين الهيمنة والردع، القوة والكرامة، الأمن والسيادة. غير أن فهم هذه المعادلة لا يمكن أن يتم في معزل عن البنية الإمبريالية التي تحكم العلاقات في الشرق الأوسط منذ نشأة الكيان "الإسرائيلي" وحتى اليوم. فالمفاوضات ليست حدثًا تقنيًا، بل هي —كما يقول سماحة السيد الشهيد حسن نصر الله في سياق نقده للعلاقات الدولية— أداة لاستمرار السيطرة بوسائل أكثر نعومة.
منذ نشأته، لم يتعامل الكيان "الإسرائيلي" مع لبنان كطرفٍ مكافئ أو كدولة ذات سيادة مكتملة، بل كـ"هامشٍ جغرافي" يجب تطويعه أمنيًا وعسكريًا كي يضمن استمرار "الأمن الإسرائيلي". هذه هي نقطة الانطلاق الجوهرية في أي فهم واقعي للتفاوض. فـ"إسرائيل" لم تكن يومًا معنية بسلامٍ متكافئ، بل بترتيبٍ يضمن استمرار اختلال ميزان القوة.
الإخضاع كمنهج تفاوضي
في العقل الإستراتيجي "الإسرائيلي"، لا مكان لمفهوم الشراكة أو الثقة، لأن النظام القائم على العنف المؤسَّس لا يستطيع أن يعيش إلا من خلال الهيمنة الأمنية الدائمة. ولهذا، تتجلى مقاربة "إسرائيل" للبنان في صورة واضحة:
إخضاع أمني – إضعاف سياسي – تبعية اقتصادية – وتفكيك للمجتمع من الداخل.
لقد اعتادت "إسرائيل" أن تدخل كل مسار تفاوضي وهي تستند إلى تفوّقها العسكري والدعم الغربي المطلق، لا سيما الأميركي منه. فالولايات المتحدة —كما يصفها سماحة السيد— لم تكن راعي سلام في الشرق الأوسط بل منظّمًا لموازين القوة لصالح التفوق "الإسرائيلي". فهي ترى في "إسرائيل" الامتداد الحضاري لمشروعها، لا مجرد حليف. هذه الرؤية جعلت أي مفاوضات —مهما كانت— تنطلق من معادلة مختلة جوهريًا، حيث يُطلَب من الطرف العربي تقديم التنازلات تحت سقف الأمن "الإسرائيلي"، لا تحت عنوان العدالة أو المساواة.
الغرب وإدارة الطمأنينة عبر التفوّق
حين ننظر في تاريخ العلاقة بين الغرب والأنظمة العربية، نلحظ أن المنظومة الغربية لا تمنح ثقتها لأحد. فالدعم الذي قُدّم لصدام حسين في حربه ضد إيران، انتهى بتدمير جيشه وإعدامه. والعلاقات الإستراتيجية مع دول الخليج، رغم عمقها المالي والسياسي، لم تُترجم إلى ثقة دائمة، بل ظلت محكومة بهاجس الانقلاب المحتمل.
الغرب —من سماحة السيد— لا يسعى إلى حلفاء بل إلى نُظُم يمكن التحكم بها. ولذلك، فإن أي تفاوض مع "إسرائيل" في ظل الرعاية الأميركية هو تفاوض داخل هندسة السيطرة ذاتها، لا خارجها.
لبنان كحالة مقاومة داخل منظومة الإخضاع
لبنان يُمثّل استثناءً مقلقًا في هذه المعادلة. فوجود المقاومة فيه لم يُنتج فقط توازن ردع، بل كسر سردية التفوّق "الإسرائيلي" التي بُنيت عليها المنظومة الغربية في المنطقة. لذلك، يُنظر إلى لبنان من قبل الغرب وتل أبيب كـ"حالة غير مستقرة" يجب تدجينها.
ولعل الاجتياح "الإسرائيلي" عام 1982 كان التجربة الأوضح في محاولة تحويل لبنان إلى ساحة أمنية أميركية -"إسرائيلية". غير أن المقاومة قلبت المعادلة، وأسقطت اتفاق 17 أيار الذي وُلد كوثيقة خضوع. لم تكن المعركة فقط ضد الاحتلال العسكري، بل ضد البنية السياسية والفكرية التي حاولت فرض التطبيع كقدرٍ تاريخي.
ما جرى بعد ذلك —من تفجير قوات المارينز إلى الانسحاب الإسرائيلي عام 2000— لم يكن سلسلة مواجهات عسكرية فحسب، بل تحوّل بنيوي في وعي المنطقة. فلبنان الصغير شكّل لأول مرة نموذجًا لانتصار الإرادة الوطنية على المنظومة الإمبريالية.
الانقسام اللبناني كأداة غربية
لكن هذه المقاومة نفسها أصبحت لاحقًا محور استهداف من الداخل.
فالغرب، الذي فشل في إخضاعها بالقوة، لجأ إلى كيّ الوعي اللبناني عبر وسائل الإعلام والسياسة والاقتصاد. تمّ تسويق خطاب "النأي بالنفس" لا كخيار سيادي بل كغطاء للحياد عن قضايا العدالة والتحرر. والأسوأ أن شرائح لبنانية صارت تتماهى مع الرواية "الإسرائيلية" وتدعو، بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى استخدام القوة "الإسرائيلية" ضد بيئة المقاومة.
بهذا المعنى، فإن التفاوض مع "إسرائيل" لا يُختبر فقط في قاعات الاجتماعات، بل في بنية الوعي الداخلي. إذ يُصبح الصراع بين خيار المقاومة وإغراء التسوية صراعًا على تعريف الوطن ذاته:
هل هو وطنٌ يحمي نفسه بسيادته، أم وطنٌ يبحث عن الأمان في ظل الهيمنة؟
المقاومة كمعيار للسيادة
الموقف الذي عبّر عنه حزب الله في كتابه المفتوح إلى الدولة والشعب، جاء بمثابة إعادة صياغة للثوابت الوطنية في لحظة الإغراء بالتسوية. فبينما يسعى الغرب إلى دفع لبنان نحو قبول "تهدئة" عنوانها نزع السلاح وطمس هوية الردع، يُعيد الحزب التأكيد على أن السلام الحقيقي لا يقوم على الخضوع بل على الكرامة، وأن أي تفاوض لا يحفظ سيادة لبنان وحقه في الدفاع عن نفسه هو شكل من أشكال الإلغاء الوطني.
في هذا السياق، تبدو رؤية حزب الله، هي محاولة لتحرير مفاهيم السياسة نفسها من احتكار اللغة الغربية: السيادة لا تُقاس بعدد الاتفاقيات، بل بقدرة الدولة على حماية مواطنيها. الكرامة ليست شعارًا أخلاقيًا، بل مفهومًا إستراتيجيًا في هندسة الردع.
الدولة والمقاومة: ازدواجية القوة أم تكامل الضرورة؟
تبدو الدولة اللبنانية في موقع ملتبس: بين الحفاظ على السلم الداخلي والسعي إلى تسوية تحفظ بعض السيادة، وبين مواجهة الضغوط الغربية التي تريد فرض نموذج الدولة الخاضعة. لكن رغم هذا التباين، فإن العلاقة بين الدولة والمقاومة لا يمكن اختزالها في معادلة صراع، بل يجب قراءتها كمحاولة معقّدة لإنتاج توازن وطني في مواجهة العدو المشترك.
فالطرفان، رغم اختلاف اللغة والخطاب، يلتقيان عند الحدّ الأدنى: لا لإسقاط لبنان تحت المظلّة "الإسرائيلية"، ولا للتفريط بحقوقه السيادية.
المعادلة الختامية: الكرامة كاستراتيجية ردع
إن ما يملكه لبنان اليوم ليس سلاح المقاومة فحسب، بل قوة المعنى: أن بلداً صغيراً بمساحته وقدراته يملك ما لا تملكه الأنظمة الكبرى —الكرامة السياسية.
فالتفاوض من دون كرامة ليس سوى استسلامٍ مؤجَّل، أما المقاومة فهي لغة الكرامة حين تصمت الدبلوماسية. ولذلك، فإن السؤال الحقيقي في ميزان التفاوض لا يتعلق بمن يربح الجولة المقبلة، بل بأي هوية سياسية سينهض لبنان:
هل سيبقى في معسكر الدول التي تفاوض تحت التهديد، أم سيصوغ معادلة جديدة تجعل من التفاوض نفسه امتداداً للردع والسيادة؟
من منظورنا المنطقي، ليس المهم من يكتب البيان الختامي للمفاوضات، بل من يملك القدرة على صياغة الشروط الأخلاقية والسياسية للّغة التي يُكتب بها.
وفي هذه المعادلة، لا شك أن لبنان —بخيار المقاومة— لا يزال يكتب بلغة الكرامة، في وجه عالمٍ يريد محوه من الجغرافيا والتاريخ معًا.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]