عند انتهاء الحرب الإسرائيلية على غزة من دون تحقيق شعار "النصر المطلق" الذي رفعه بنيامين نتنياهو منذ الأيام الأولى، بدا واضحاً أن الاحتلال لم يتمكن من ترجمة وعوده إلى نتائج ميدانية أو سياسية حقيقية. فالحرب التي وُصفت بأنها "معركة وجودية" ضد حركة حماس، انتهت فعلياً بواقع مختلف، حيث بقيت الحركة على قيد الحياة السياسية والعسكرية، واستمرت قدراتها في تهديد إسرائيل، ولو بحدود متفاوتة.
منذ 7 أكتوبر 2023، حاول نتنياهو بناء رواية تقوم على أربعة أهداف مركزية: القضاء على حماس، تحرير الرهائن، إزالة التهديد من غزة، وضمان أمن الإسرائيليين. ومع توالي الأشهر، تحوّل الخطاب من حماسة الانتصار إلى لغة دفاعية تبحث عن مبررات لاستمرار الحرب رغم فشلها في تحقيق غاياتها. في البداية، اعتمدت الحكومة الإسرائيلية خطاباً انتقامياً صاخباً، يبرر الدمار الهائل في غزة بضرورة "تحقيق الردع الشامل"، غير أن هذا الردع لم يتحقق. بل على العكس، كشفت الحرب عن ضعف المنظومة العسكرية والسياسية في مواجهة تنظيم غير تقليدي يتمتع بقدرة على الصمود والتكيّف.
خلال الأشهر الأولى، كان شعار "النصر المطلق" وسيلة لحشد الداخل الإسرائيلي وتوحيد صفوفه، لكنه تحوّل لاحقاً إلى عبء سياسي، إذ لم يستطع نتنياهو تقديم أي إنجاز ملموس يقنع الجمهور أو المجتمع الدولي. ومع حلول منتصف عام 2024، بدأ الخطاب الرسمي يتبدّل، فبدلاً من الحديث عن "القضاء الكامل على حماس"، ظهرت عبارات أكثر واقعية مثل "تفكيك قدراتها العسكرية" أو "تدمير بنيتها التحتية". هذا التحوّل لم يكن مجرد تغيير لغوي، بل اعتراف ضمني باستحالة تحقيق الهدف الأصلي، أي الإنهاء التام لحكم حماس في غزة.
وفي الربع الأول من عام 2024، بدأ نتنياهو يُمهّد لفكرة الحرب الطويلة، مكرّراً أن تحقيق الأهداف يتطلّب وقتاً وجهداً كبيرين، وأن "النصر" ليس مسألة أسابيع. ومع استمرار النزيف البشري والمادي، وتزايد الانتقادات الدولية بسبب المجازر، لجأت الحكومة إلى ربط الحرب بملف الأسرى لتخفيف الضغط الشعبي. وهكذا أصبح الحديث عن استعادة الرهائن شرطاً لوقف القتال، ما أتاح لإسرائيل تبرير استمرار عملياتها من دون التقدّم نحو الحسم.
لكن هذا الخطاب سرعان ما واجه مأزقاً جديداً. إذ إن العمليات العسكرية لم تؤدِّ إلى تحرير جميع الأسرى، كما لم تمنع حماس من الاحتفاظ بعناصر قوتها السياسية والعسكرية. ومع تصاعد المفاوضات غير المباشرة، اضطرت إسرائيل إلى القبول بصفقات جزئية، ما أضعف رواية "الحسم الكامل". وفي المقابل، خرجت المقاومة من الحرب بقدرة رمزية على فرض شروطها الميدانية والسياسية، وهو ما شكّل ضربة قاسية لهيبة الجيش الإسرائيلي وصورة الردع التي بناها لعقود.
بحلول منتصف عام 2025، تحوّل شعار "النصر المطلق" إلى خطاب مكرور يخلو من المضمون، يُستخدم لتسكين الغضب الداخلي أكثر مما يُعبّر عن رؤية حقيقية. أما عملياً، فبات الهدف المركزي هو التوصل إلى تسوية مؤقتة تُعيد الأسرى وتُظهر إنجازاً ما قبل الانتخابات، مع وعود مبهمة حول "إدارة ما بعد الحرب". وقد حاول نتنياهو استثمار الخطط الأميركية، مثل مبادرة الرئيس ترامب بشأن غزة، لتقديمها كغطاء سياسي يُنهي الحرب من دون إعلان الهزيمة. غير أن هذا المسار لم ينجح في إخفاء حقيقة الإخفاق.
لقد فشلت إسرائيل في تحقيق أيٍّ من أهدافها المعلنة: لم تُجبر حماس على نزع سلاحها، ولم تستطع فرض سيطرة أمنية شاملة على القطاع، كما لم تُقم سلطة بديلة تحكم غزة. بل إن حالة الردع الإقليمي تراجعت مع انخراط جبهات أخرى في المواجهة، من لبنان إلى اليمن والعراق، ما جعل الحرب على غزة تبدو كحلقة ضمن صراع أوسع لم تنجح تل أبيب في احتوائه.
في التحليل النهائي، تُظهر مسيرة الحرب وتحوّلات خطاب نتنياهو أن "أهداف الحرب" لم تكن سوى أداة لتبرير استمرارها، وأن إسرائيل خاضت معركة بلا رؤية ختامية واضحة. فكلما فشلت في تحقيق هدف، أعادت تعريفه بصيغة جديدة لتُخفي الإخفاق، إلى أن وجدت نفسها أمام واقع سياسي وأمني لا يُتيح إعلان النصر ولا يسمح بالانسحاب الكريم. وهكذا انتهت الحرب باتفاق مع حماس، لا عليها، لتؤكد أن القوة العسكرية مهما بلغت لا يمكن أن تنتج نصراً سياسياً في مواجهة حركات مقاومة متجذّرة.
إن إخفاق إسرائيل في حرب غزة لا يُقاس فقط بعدد الأهداف غير المحققة، بل في فشلها بتغيير المعادلة نفسها: فحماس لم تُهزم، وغزة لم تُخضع، والمجتمع الإسرائيلي خرج أكثر انقساماً، فيما تعزّزت مكانة المقاومة في الوعي العربي والإقليمي. لقد أراد نتنياهو حرباً تُعيد لإسرائيل هيبتها، فانتهت إلى حرب كشفت هشاشتها.
الكاتب: غرفة التحرير