الثلاثاء 28 تشرين أول , 2025 12:52

الترامبية في الشرق الأوسط: كيف انتقل الدعم الأمريكي لإسرائيل من السياسة إلى العقيدة

ترامب ونتنياهو

منذ تولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة عام 2017، شهدت العلاقة الأمريكية مع الكيان الإسرائيلي تحوّلًا جوهريًا من تحالفٍ استراتيجي تقليدي قائم على الدعم والمصالح المشتركة إلى علاقة تقوم على التماهي الكامل بين الطرفين في الرؤية والسياسات، حتى بات من الصعب التمييز بين الموقفين الأمريكي والإسرائيلي في معظم القضايا. فبدل أن تكون واشنطن وسيطًا في الصراع العربي–الإسرائيلي، أصبحت شريكًا مباشرًا في إعادة رسم خرائط النفوذ في الشرق الأوسط، من خلال تبنّي الرواية الإسرائيلية بالكامل في ملفات القدس والجولان والاستيطان، وتكريس دعمٍ عسكريٍّ ومؤسسيٍّ واسعٍ يربط أمن إسرائيل بالأمن القومي الأمريكي.

هذا التحول لم يكن مؤسساتيًا بقدر ما كان شخصيًا، إذ لعب ترامب دورًا مباشرًا في صياغة الموقف الأمريكي من داخل عقل اليمين الإسرائيلي نفسه، بفضل شبكة شخصيات نافذة في إدارته مثل جاريد كوشنر وديفيد فريدمان، اللذين حملا أجندة اليمين الديني الصهيوني إلى قلب البيت الأبيض. وجاءت "صفقة القرن" عام 2020 كتجسيد لهذا التوجه، حين حوّلت القضية الفلسطينية من مسألة تحرر وحقوق إلى مشروع اقتصادي مشروط يقوم على شعار "السلام مقابل الازدهار" بدل "الأرض مقابل السلام". وحتى بعد اندلاع الحرب على غزة (2023–2025)، أعيد إحياء جوهر هذه المقاربة عبر مقولة "وقف الحرب مقابل الإعمار"، ما أكد أن السياسة الأمريكية فقدت حيادها نهائيًا في هذا الصراع.

في جوهر العلاقة الجديدة، لم يعد الكيان مجرد متلقٍ للدعم الأمريكي، بل تحوّل إلى طرفٍ قادر على التأثير في القرار الأمريكي ذاته. فترامب، الذي تربطه بنتنياهو علاقة أيديولوجية وشخصية وثيقة، وجد في اليمين الإسرائيلي امتدادًا لمشروعه الداخلي "أمريكا أولًا"، حيث تجسدت شعارات القوة والسيادة القومية في صورة "إسرائيل فوق الجميع". أما نتنياهو، فقد رأى في ترامب الزعيم الذي يحقق له غطاءً دوليًا لسياساتٍ كان يصعب تمريرها في عهد الإدارات السابقة.

استخدم ترامب أدوات النفوذ الاقتصادي والإعلامي لتكريس هذا التحالف غير المتوازن. فمع أن المساعدات الأمريكية السنوية لإسرائيل تبلغ نحو 3.8 مليارات دولار وفق مذكرة تفاهم موقعة منذ عهد أوباما، إلا أن ترامب وظّفها كورقة ضغط سياسية، ملوّحًا بأن استمرارها مشروط بالتوافق مع رؤيته الإقليمية. في المقابل، فتح أمام إسرائيل أبواب التطبيع العربي عبر "اتفاقات أبراهام"، مانحًا إياها مكاسب اقتصادية واستراتيجية غير مسبوقة.

أما على الصعيد الرمزي والسياسي، فقد اتخذت العلاقة بُعدًا غير مألوف. زيارة ترامب للكنيست الإسرائيلي، التي اعتُبرت الأولى من نوعها لرئيس أمريكي سابق، مثّلت إعلانًا صريحًا عن تحوله من "حليف خارجي" إلى "فاعل داخلي" في السياسة الإسرائيلية. تحدث ترامب هناك بلغة القائد المنتصر الذي أعاد لإسرائيل مجدها، وأرسل رسائل واضحة: للعرب بأن التطبيع سيتعمق، ولإيران بأن سياسة "الردع القصوى" ستعود، ولأوروبا بأن واشنطن لن تسمح بدور موازٍ في ملفات غزة والشرق الأوسط. كما كانت الزيارة جزءًا من خطابه الانتخابي الموجّه إلى قاعدته الإنجيلية في أمريكا، التي ترى دعم إسرائيل التزامًا دينيًا قبل أن يكون سياسيًا.

على المستوى العملي، فرض ترامب أجندة "السلام الاقتصادي" بدل التسوية السياسية، ودمج التطبيع في الخط الإقليمي على حساب القضية الفلسطينية. عزّز التعاون الأمني في مجالات الدفاع الصاروخي والاستخبارات، وحصّن إسرائيل في مواجهة إيران. كما ساهم في تحويلها إلى مركز رمزي للحضارة الغربية ضمن خطابه الشعبوي، ما جعلها جزءًا من "الهوية الترامبية" العالمية. وفي المجال العسكري، عمّق التحالف الصناعي بين شركات السلاح الأمريكية والإسرائيلية، فأصبحت إسرائيل شريكًا في الإنتاج الدفاعي بدل أن تكون متلقية للمساعدات فقط.

لكن، رغم هذا النفوذ، لم يكن تحكم ترامب مطلقًا. فالمؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية حافظت على استقلالها النسبي، كما أن الصراعات داخل اليمين الإسرائيلي نفسه حدّت من قدرته على فرض إرادته الكاملة. كذلك، قيّدت "الدولة العميقة" في الولايات المتحدة نزعاته الشعبوية، إذ ظلت مؤسسات مثل البنتاغون ووزارة الخارجية متمسكة بخطوط حمراء تتعلق باستقرار المنطقة ومنع الحروب المفتوحة. بمعنى آخر، كانت سيطرة ترامب على إسرائيل سياسية وشخصية، لا مؤسساتية وهيكلية.

على الصعيد الاستراتيجي، تطورت العلاقة نحو الاعتماد المتبادل. فإسرائيل باتت أكثر استقلالية ميدانيًا في قراراتها العسكرية، فيما أصبحت واشنطن تعتمد على أذرعها الاستخباراتية في المنطقة. هذا التبادل جعل من الصعب على أي إدارة أمريكية لاحقة أن تفصل بين المصالح الأمريكية والإسرائيلية، أو أن تعيد العلاقة إلى توازنها السابق.

ختامًا، يمكن القول إن حقبة ترامب مثّلت تحولًا حاسمًا في تاريخ العلاقة الأمريكية–الإسرائيلية. فهي لم تعد علاقة دولة بحليف، بل علاقة زعيمين يتقاسمان المشروع والرؤية. زيارة ترامب إلى الكنيست كانت إعلانًا رمزيًا لولادة "التحكم المتبادل": حيث تمارس واشنطن نفوذها المالي والسياسي، بينما تمارس تل أبيب نفوذها الأيديولوجي والإعلامي داخل الولايات المتحدة. بهذا المعنى، ألغى ترامب الفاصل بين السياسة الأمريكية والإسرائيلية، وحوّل التحالف التاريخي إلى شراكة فكرية واستراتيجية عميقة تستمر آثارها في كل إدارة تالية، لتصبح إسرائيل جزءًا من هوية أمريكا الجديدة كما رسمها ترامب — هوية يمينية، دينية، وتوسعية، ترى في الشرق الأوسط ساحة نفوذ لا مجال فيها لتوازن أو حياد.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور