الأربعاء 02 تموز , 2025 03:33

بين وهم النصر وواقع الميدان: لماذا يعرض ترامب ونتنياهو وقف الحرب الآن؟

نتنياهو وترامب وحركة حماس

في اللحظة التي بدا فيها أن آلة الحرب "الإسرائيلية" بلغت أقصى عنفوانها في قطاع غزة، وفي وقت ظنّ فيه دونالد ترامب أن بإمكانه إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط مجددًا عبر سياسة "الضغط الأقصى"، تفاجأ المراقبون بأن الرجلين – ترامب ونتنياهو – يلوّحان بما يُسمى "وقف الحرب". لكنّ هذا التوقف مشروط: ليس لإنهاء العدوان، بل لـ"إنهاء حماس". وهنا بالضبط، تكمن المعضلة، ويتكشّف التناقض الجوهري بين "خطاب السلام" وواقع الاحتلال، بين سردية الهيمنة ونبض المقاومة.

في ظاهر الأمور، تُبنى رواية إعلامية متكاملة عن مبادرة "أميركية–إسرائيلية" لوقف إطلاق النار، مدعومة من قطر ومصر. هكذا، وعلى طريقة واشنطن المألوفة، يُسَوّق المشروع بوصفه "فرصة أخيرة للسلام"، بينما هو، في جوهره، محاولة لفرض استسلام سياسي بعد الفشل العسكري في القضاء على المقاومة. هذه الهدنة المفترضة لا تأتي من منطلق مراجعة أخلاقية أو حتى استراتيجية، بل كردّ فعلٍ اضطراري فرضته وقائع الميدان وتداعيات الحرب الإقليمية، لا سيما بعد الهجوم الإيراني واسع النطاق والضربات الدقيقة التي تلقّتها "إسرائيل"، إضافة إلى الضغوط الداخلية المتزايدة على حكومة نتنياهو المهترئة سياسيًا.

كمائن غزة.. وعنوان الفشل العسكري الإسرائيلي

لأكثر من 630 يومًا، خاضت "إسرائيل" حربًا مفتوحة على قطاع غزة، تحت شعار "إزالة حماس" وإعادة "الردع". لكنّ الحقيقة الميدانية – والتي تتقن "إسرائيل" طمسها إعلاميًا – كانت في غير صالحها. فقد أظهرت الكمائن المتكررة التي نفذتها كتائب القسام وفصائل المقاومة الأخرى قدرةً استثنائية على المناورة، والاستنزاف، وتوجيه ضربات نوعية خلف خطوط العدو.

الجيش الذي ظنّ أنه قادر على إنهاء "الحرب في أسابيع"، وجد نفسه غارقًا في رمال غزة المتحركة، يعيد تموضعه عشرات المرّات، ويتلقى ضربات في مناطق كانت توصف بـ"المطهّرة". حتى "المنطقة الآمنة" حول السياج، التي بُنيت على أساس خطة أمنية محكمة، باتت ساحة اشتباك يومي. من كمين "النفق" إلى تفجير ناقلات الجنود، ومن استهداف مراكز القيادة إلى إطلاق الصواريخ على المستوطنات في توقيتات مدروسة، كانت المقاومة تعيد تعريف معنى "البقاء"، لا بصفتها حركة فقط، بل كبنية مقاتلة تمتلك الخبرة والمعرفة والتصميم.

نتنياهو… الهروب من الميدان إلى بروباغندا النصر

ليس سهلًا على رجل مثل نتنياهو أن يُقِرّ بالفشل، وهو الذي قدّم نفسه لسنوات كـ"الرجل الوحيد القادر على ردع إيران وحماس معًا". لكنّ الضربات الإيرانية التي نُفّذت في عمق فلسطين المحتلة، وتداعياتها داخل المؤسستين الأمنية والسياسية، كانت كافية لكسر الهيبة الدعائية التي نسجها حول نفسه.

لقد أراد نتنياهو لحرب غزة أن تكون تتويجًا لانتصار إقليمي مزعوم بعد هجومه على المنشآت الإيرانية. لكنّ ما جرى في الواقع كان العكس تمامًا: المقاومة لم تنهزم، وإيران لم تُردع، والرأي العام "الإسرائيلي" بات يسائل حكومته عن النتائج التي تحققت بعد كل هذا الدم، والدمار، والخسائر الاقتصادية الهائلة. نصرٌ من ورق، لا أكثر.

وحتى داخل حكومته، بات نتنياهو محاصرًا: شركاؤه المتطرفون من اليمين لم يعودوا قادرين على فرض رؤيتهم التوسعية لأنّ الخسائر الميدانية أقنعتهم بأن استمرار الحرب سيعني نهاية تحالفهم السياسي. ولهذا، يحاول رئيس الحكومة لعب ورقة الهدنة المؤقتة لاستثمار ما يصفه بـ"الإنجاز الإيراني"، وفتح أبواب التطبيع مع عواصم عربية جديدة، خصوصًا الرياض ودمشق، قبيل الانتخابات القادمة.

ترامب والتوظيف السياسي للحرب… أم مشروع للتسليم المشروط؟

أما دونالد ترامب، فلا يمكن قراءة تحرّكاته الأخيرة بعيدًا عن ولعه بالاستعراض. الرجل الذي يقدّم نفسه كصانع سلام جديد، لا يهمه سوى توقيع اتفاقات تُدخل اسمه التاريخ. وفي هذا السياق، تصبح غزة وسيلة لا غاية: فالهدف ليس وقف العدوان، بل توظيف الحرب لإنجاز "صفقة كبرى" تشمل السعودية وسوريا ولبنان، عبر إخراج حماس من المشهد، وفرض ترتيبات أمنية جديدة في القطاع، ربما تشمل عودة السلطة أو قوات عربية تحت مسميات إنسانية.

ترامب يفاوض الآن من موقع الوهم لا من موقع القوة، إذ يظن أن ما لم يُحقق عسكريًا يمكن تحقيقه بالمفاوضات، من دون تغيير جذري في الوقائع السياسية أو العسكرية. وهو بذلك يكرّر الخطأ الأميركي المتراكم منذ 2001: الاعتقاد بإمكانية تحويل الحركات المقاومة إلى أدوات في مشروع الشرق الأوسط الجديد.

لكن، حتى هذه اللحظة، لم تبدِ حماس أيّ استعداد لابتلاع الطُعم. فرغم الكلفة البشرية الهائلة، فإن الحركة – ومعها بقية فصائل المقاومة – تدرك أن قبول مثل هذا الاتفاق المشروط يعني تكريس الهزيمة السياسية، وفتح الباب أمام عودة الاحتلال بأشكال جديدة، وربما عبر غطاء عربي.

المنطقة بأسرها أمام لحظة حاسمة

الهدنة المقترحة، بصيغتها الحالية، ليست إلا مرحلة تكتيكية ضمن مشروع أوسع لإعادة ترتيب الشرق الأوسط على هوى التحالف "الأميركي–الإسرائيلي". لكن هذا المشروع يواجه اليوم جملة من التحديات البنيوية: يقظة المقاومة، وتماسك محورها الإقليمي، واتساع فجوة الثقة بين الشعوب العربية وأنظمتها المطَبّعة.

فهل تقبل حماس هدنة مشروطة تسلّط سيف الاستئصال على رقبتها؟ وهل تجرؤ "إسرائيل" على استكمال الحرب من دون غطاء أميركي؟ وما هو ثمن الهدوء المزعوم الذي يُعرض على الفلسطينيين بينما تواصل الآلة "العسكرية الإسرائيلية" قصف الشمال والجنوب على السواء؟

"سلام" لا يمنح الأمن، و"هدنة" لا تمنح الحياة

قد يقبل العالم بأسره بأنصاف الحلول، وقد تبني واشنطن مسرحيات تفاوضية كلما احتاجت إلى إرضاء الرأي العام الغربي أو كسب أصوات انتخابية. لكن الشعب الفلسطيني، الذي رأى الموت وواجهه بشجاعة، لا يحتاج إلى "هدنة مؤقتة"، بل إلى إنهاء الاحتلال. و"إسرائيل"، التي تراهن على استسلام الفلسطينيين، تتجاهل حقيقة أن من صمد أكثر من 600 يوم تحت القصف والحصار والجوع، لا يمكن هزيمته بورقة تفاوضية كُتبت في تل أبيب ووقّعت في واشنطن.

وعليه، فإن رفض حماس للمبادرة المطروحة لا ينبغي أن يُقرأ كتعنت، بل كخيار استراتيجي يعكس فهمًا عميقًا لطبيعة المعركة، ولمحدودية الفعل "الإسرائيلي–الأميركي"، حتى في ذروة التنسيق والعدوان. فالميدان لا يكذب، وكما لم تُهزم بيروت ولا صنعاء ولا طهران، لن تُهزم غزة.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]




روزنامة المحور