يوصي قائد الثورة الإسلامية الإمام السيد علي الخامنئي جداً، بقراءة كتاب " سلام ما بعده سلام: سقوط الدولة العثمانية وولادة الشرق الأوسط الحديث " الذي كتبه ديفيد فرومكين الحائز على جائزة بوليتزر، والذي يصف الأحداث التي أدت إلى تفكك الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، والتغييرات الجذرية التي نتجت في منطقة الشرق الأوسط، والتي يعتبر المؤلف أنها أدت إلى حرب عالمية جديدة مستمرة حتى يومنا هذا.
وبناء على توصية الإمام الخامنئي بمطالعته، وربطاً بالأحداث الأخيرة في المنطقة ومحاولات المعسكر الغربي بقيادة أمريكا، إعادة رسم خريطة غرب آسيا، بناء على المتغيرات التي تلت عملية ومعركة طوفان الأقصى، نستعرض أبرز الأفكار التي جاءت في هذا الكتاب، مع رابط تحميل النسخة الإلكترونية منه.
فهذا الكتاب يعد أحد أهم الأعمال التاريخية لكل من يسعى لفهم أصول منطقة الشرق الأوسط المعاصرة. فبدقة المؤرخ ووضوح الراوي، يُحلل فرومكين ببراعة الفترة الحرجة بين عامي 1914 و1922، عندما أعادت الحرب العالمية الأولى وتداعياتها المباشرة رسم خريطة المنطقة. يكشف كتابه كيف اتخذت القوى الغربية، وخاصة بريطانيا وفرنسا، قراراتٍ خلال الحرب وبعدها لا تزال آثارها مستمرة حتى يومنا هذا - قراراتٌ زرعت بذور العديد من أكثر صراعات المنطقة ديمومة.
هذا الكتاب ليس مجرد سجلٍّ للمعاهدات والحملات العسكرية؛ بل هو دراسةٌ كاشفةٌ للأخطاء السياسية والطموحات الإمبريالية وسوء الفهم الثقافي الذي شكّل مصير الملايين. في عصرٍ تُهيمن فيه صراعات الشرق الأوسط على عناوين الأخبار - سواءً على صعيد الصراع مع إسرائيل، أو على صعيد الهيمنة الأمريكية على دول المنطقة - يظل تحليل فرومكين ذا أهمية بالغة. فهو يدعو القراء إلى تجاوز التفسيرات التبسيطية والتأمل في التيارات التاريخية الأعمق التي لا تزال تُشكل الأحداث اليوم.
يبدأ فرومكين كتابه بانهيار الإمبراطورية العثمانية، ذلك الكيان الشاسع والمتنوع الذي سيطر لقرون على جزء كبير من الشرق الأوسط. عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، تحالف العثمانيون مع ألمانيا، على أمل عكس مسار تراجعهم الطويل والحفاظ على سيادتهم. لكن الحرب كانت قد دبرتها القوى الأوروبية الكبرى بالفعل، ليس فقط كمعركة على التفوق القاري، بل أيضًا كصراع عالمي على الهيمنة الإمبريالية. وأصبح انهيار الإمبراطورية العثمانية نتيجةً وذريعةً لبريطانيا وفرنسا لتقسيم المنطقة وفقًا لرؤاهما الاستراتيجية الخاصة.
اما اللحظة التاريخية المحورية التي يستكشفها فرومكين، فهي اتفاقية سايكس بيكو لعام 1916، وهي معاهدة سرية اتفقت فيها بريطانيا وفرنسا على تقسيم الأراضي العربية العثمانية بينهما، متجاهلةً تطلعات السكان المحليين. هذه الصفقة السرية، إلى جانب وعود أخرى متضاربة (مثل تعهد بريطانيا بالاستقلال للقادة العرب في مراسلات الحسين-مكماهون، ووعدها بوطن يهودي في وعد بلفور عام 1917)، خلقت شبكة متشابكة من التوقعات والخيانات. وكانت النتيجة ترتيبًا جيوسياسيًا متقلبًا، لا تحركه إرادة شعوب المنطقة، بل الحسابات الإمبريالية للعواصم البعيدة.
ويُطلق فرومكين على هذا الأمر وصف "السلام الذي ينهي كل سلام"، وهي عبارة تقلب مثالية معاهدة فرساي رأسًا على عقب. فبدلًا من تحقيق استقرار دائم، خلقت ترتيبات ما بعد الحرب في الشرق الأوسط حدودًا مصطنعة، ومكّنت حكامًا غير ممثلين، ومهدت الطريق لعقود من الصراع. وبحسب روايته، فإن السلام الذي أعقب الحرب العالمية الأولى لم يفشل في حل التوترات فحسب، بل خلق توترات جديدة ستظل تطارد المنطقة والعالم لأجيال.
لماذا يُعد تحليل فرومكين بهذه الأهمية؟
من أبرز نقاط قوة هذا الكتاب، هو رفض فرومكين اختزال العمليات التاريخية المعقدة في تفسيرات أيديولوجية أو دينية. فهو لا يرى بأن المنطقة محكومٌ عليها بالصراع بسبب "الأحقاد القديمة" أو "الاختلافات الحضارية" (أو الموضوع المذهبي الذي يحاول الغرب دائماً اللعب على وتره). بل يتتبع بدقة كيف أساء القادة الغربيون، وخاصةً في بريطانيا، فهم الديناميكيات الاجتماعية والسياسية للمنطقة. فقد افترضوا، على سبيل المثال، أن القومية العربية واسعة الانتشار ومتماسكة، أو أنه يمكن بسهولة فرض سلطة مركزية على مجتمع قبلي لامركزي. واعتقدوا أن بإمكانهم "اختراع" دول - مثل العراق والأردن - وتنصيب ملوكٍ مطيعين لا يولون اهتمامًا يُذكر للواقع المحلي.
ويُظهر فرومكين كيف أن فرض الدول القومية على النمط الأوروبي على أنقاض إمبراطورية متعددة الأعراق أدى إلى خلق أنظمة هشة بطبيعتها. في كثير من الحالات، افتقرت الأنظمة الجديدة إلى الشرعية أو الدعم الشعبي. والأسوأ من ذلك، أنها غالبًا ما اضطرت إلى الاعتماد على الدعم العسكري الأجنبي أو القمع الوحشي للبقاء. لا تزال عواقب هذه الهندسة السياسية المعيبة جلية في دول الشرق الأوسط اليوم، التي لا يزال الكثير منها يعاني من انقسامات داخلية، وضعف المؤسسات، وتنازع الهويات الوطنية.
دروس للحاضر
بعد أكثر من قرن، لا يزال إرث القرارات التي وثّقها كتاب "سلام ما بعد السلام" واضحًا للغاية. لا تزال الحدود التي رسمتها القوى الاستعمارية - وهي غالبًا خطوط مستقيمة تخترق مناطق متنوعة عرقيًا ودينيًا - تُثير الصراعات. على سبيل المثال، أعاد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 إحياء العديد من التوترات الطائفية والقومية.
ويساعدنا عمل فرومكين على فهم أن العديد من مشاكل الشرق الأوسط لا تكمن جذورها في جوهر شعوبه أو أديانه، بل في إرث الإمبراطورية الذي لم يُحل. عندما ينظر المراقبون الغربيون إلى اضطرابات المنطقة على أنها حتمية أو غير قابلة للتفسير، فإنهم غالبًا ما يتجاهلون الدور الذي لعبته بلدانهم في تشكيل شكلها الحالي.
لتحميل الكتاب
الكاتب: غرفة التحرير