يشهد ملف إعادة إعمار غزة بعد الحرب الأخيرة صراعات سياسية وأمنية دقيقة، تتجاوز حدود الفصائل الفلسطينية لتشمل القوى الإقليمية والدولية. فمحاولات الكيان لاستبعاد تركيا من القوة الدولية المزمع تشكيلها داخل القطاع ليس ناتجاً عن قرار عشوائي، بل يعكس الاستراتيجية الإسرائيلية الواضحة التي تحاول احتواء النفوذ التركي، الذي توسع بشكل ملحوظ في سوريا بعد سقوط النظام السابق وتولي الشرع الحكم، ما أحدث تحولات مباشرة تتعارض مع المصالح الأمنية الإسرائيلية في العمق السوري.
خلفية التوتر
تسعى "إسرائيل" مؤخراً لتشكيل ما يعرف بـ "قوة استقرار" مكونة من نحو 5,000 عنصر، مهمتها الأساسية إدارة الأمن وتنسيق جهود إعادة الإعمار في غزة. تركيا أبدت استعدادها للمشاركة في هذه القوة، غير أن "إسرائيل" رفضت وجودها، معتبرة أن تداخل الروابط التركية بحماس والإخوان المسلمين يشكل تهديداً أمنياً لها. بحسب ما أعلنه الاحتلال فإن هذا الموقف يأتي بهدف "منع أي تسرب للقدرات السياسية أو الاستخباراتية التي قد تستفيد منها الفصائل الفلسطينية في المستقبل من تركيا". ولكن هناك حساب إسرائيلي أوسع مرتبط بالدور الذي تلعبه تركيا في سوريا.
بعد منح الحكم للشرع، تمكنت تركيا من توسيع نفوذها العسكري والسياسي بشكل ملموس، خصوصاً في الشمال السوري، حيث استغلت الفراغ الأمني لتعزيز مواقعها ودعم فصائل مرتبطة بها. لم يقتصر هذا التوسع التركي على النفوذ العسكري، بل امتد ليشمل القدرة على التأثير السياسي، وهو ما يتناقض بشكل مباشر مع مصالح "إسرائيل" في سوريا، التي تسعى إلى الحد من أي نفوذ قد يكون عائقاً أمام مشروعها، ويعرقل لها دورها في المناطق المجاورة انطلاقاً من القاعدة التي تبنيها لها في سوريا. وبالتالي، أي حضور تركي في غزة يُنظر إليه من قبل الاحتلال على أنه تمدد إضافي للوجود التركي في محيطه الجغرافي والأمني، لذلك يظهر التشدد الإسرائيلي الآن في استبعاد أنقرة.
إيجاد البدائل
ولتحقيق أهدافها، تعتمد "إسرائيل" على بدائل إقليمية تحظى بدعم الولايات المتحدة. يُتوقع أن تتولى مصر قيادة "قوة الاستقرار" لأن مصر يهمها أيضاً أن تحد من نفوذ حماس والفصائل الفلسطينية داخل غزة لأن هذا يضمن بقاء الفلسطينيين في القطاع -بحسب ما تعتقده هذه الأطراف- ولا يكون هناك ضرورة لتهجيرهم إلى مصر كما كان مخطط لهم وهكذا يزول القلق المصري من هذا الملف بما يتوافق مع ما يروج له الكيان أن هذا "سيؤمن حدود مصر الجنوبية". مع مشاركة مستشارين من الإمارات وأوروبا. هذه الترتيبات تأتي لضمان عدة أهداف: أولاً، تشكيل قوة مسيطرة وموثوقة، غير مرتبطة بتركيا، ما يقلل من مخاطر النفوذ التركي الذي يتحدث عنه الإسرائيلي في غزة. ثانياً، بحسب الاحتلال "الحد من أي خبرات يمكن أن تستفيد منها الفصائل الفلسطينية". وأخيراً، تعزيز دور اللاعبين الإقليميين الذين يتوافقون مع الأجندة الإسرائيلية في كل من غزة وسوريا، بما يضمن الحفاظ على مصالح الكيان بعيداً عن أي متغيرات غير محسوبة.
كذلك تفضل الولايات المتحدة تولي مصر مهمة إدارة القوة الدولية في غزة بدلاً من تركيا لأنها تعتبرها قادرة على تنفيذ الأجندة الإسرائيلية–الأميركية دون إحداث توترات. إضافة علاقات مصر القوية مع الاحتلال، ما يجعل أي تدخل مصري مقبول بالمقابل، أي دور تركي بالنسبة للاحتلال كان سيضعف القدرة الأميركية–الإسرائيلية على ضبط الوضع، لذلك، يأتي تفضيل مصر كخطوة لضمان أن تظل "إسرائيل صاحبة اليد العليا في غزة" بغطاء دولي.
العرقلة الإسرائيلية
إضافة إلى الأبعاد الأمنية، يشكل استبعاد أي قوة خارجية تحدياً في الملف الإنساني، إذ إن معدلات دخول شاحنات المساعدات إلى غزة لا تتجاوز 14% من الكمية المتفق عليها، ما يعكس حجم الأزمة الإنسانية الحقيقية وتباطؤ جهود إعادة الإعمار. هذه المعطيات تؤكد أن الاحتلال يتحكم بشكل مباشر في تدفق المساعدات، ويضع قيوداً مشددة تحد من القدرة على تحسين حياة المدنيين، ما يجعل إعادة بناء غزة عملية معقّدة وشديدة الإرباك في ظل الممارسات الإسرائيلية.
في المقابل، تعمل "إسرائيل" على ضمان أن تظل أي تدخلات في غزة ضمن نطاق يحقق مصالحها ويخدم أجندتها السياسية والأمنية، بعيدًا عن أي طرف قد يشكل عائقاً لسيطرتها على القطاع. ويمكن قراءة هذه السياسات على أنها جزء من استراتيجية إسرائيلية أوسع لإعادة رسم المنطقة على قياسها، بحيث تضمن سيطرتها على غزة وسوريا معاً، وتحافظ على احتكارها للقرار في المنطقة.
الكاتب: غرفة التحرير