تُعتبر قرية عين فيت في هضبة الجولان نموذجاً صارخاً لكيفية استغلال الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة لأغراض عسكرية، بعيداً عن أي اعتبار للحقوق التاريخية لسكانها. بعد تهجير أهاليها قسرياً في حزيران 1967 على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي ضمن ما يعرف ب "نكسة حزيران"، أصبح سكان القرية مضطرين للعيش في دمشق ومحيطها، بينما حول الاحتلال المكان إلى معسكر تدريبي سري يحاكي قرى جنوب لبنان.
دلالات الاختيار
يعود اختيار عين فيت لهذا الغرض إلى موقعها الاستراتيجي وطبيعتها الجغرافية المتنوعة. فالقرية تقع في شمال غرب الجولان، بالقرب من جنوب لبنان وسهل الحولة، وتتميز بتضاريس جبلية وسهول ومياه غزيرة، ما يجعلها مثالية لمحاكاة بيئات القتال الحضرية والجبلية على حد سواء. وبفضل امتدادها الجغرافي، يمكن للجيش الإسرائيلي دمج تدريبات الذخيرة الحية والمشاة والدبابات والطيران في سيناريوهات تحاكي الاقتحام والسيطرة على القرى اللبنانية.
تعكس المناورات الإسرائيلية في عين فيت وعبر قاعدة "سنير" المجاورة التزام الاحتلال بتطوير عقيدة قتالية متعددة الأبعاد، تشمل التدريب على القتال الحضري، استخدام التكنولوجيا، الحرب الإلكترونية، والمسيّرات الهجومية. هذه الاستعدادات تأتي ضمن استراتيجية إسرائيلية لإيجاد "العمق الاستراتيجي" على الجبهة الشمالية، وضمان القدرة على نقل المعركة إلى "أراضي الخصم" عند الضرورة، ويأتي هذا في ظل التهديد الإسرائيلي المستمر للاستقرار وخصوصاً في القرى الحدودية حيث يقوم الاحتلال بعمليات توغل كل فترة ويفجر وينسف المنازل المتبقية بالرغم من وجود بعض من أهالي هذه القرى بداخلها.
تدريبات خارج الجولان
لا تقتصر استعدادات الاحتلال في الجولان فقط، ف "إسرائيل" وسّعت دائرة تدريباتها لتشمل مناطق خارج حدودها المباشرة، مثل قبرص، التي أصبحت ميداناً مثالياً لمحاكاة العمليات في جنوب لبنان. توفر تضاريس جبال "ترودوس" وغابات "باهوس" بيئة جبلية مماثلة لتلك الموجودة على الحدود اللبنانية، بعيداً عن أعين المراقبين الدوليين. ومن خلال تدريبات وحداتها الخاصة مثل "الإيغوز" و"لواء الكوماندوز"، بالتعاون مع الحرس الوطني القبرصي، تستعد "إسرائيل" بشكل دائم لتنفيذ سيناريوهات هجومية تشمل الاحتلال والسيطرة على مناطق في الجنوب اللبناني، بالإضافة إلى استخدام الطائرات المسيّرة والتقنيات الرقمية الحديثة.
الانشغال اللبناني والتحضير الإسرائيلي
من الناحية السياسية، يثير هذا الواقع سؤالاً جوهرياً: كيف يُمكن للرؤساء اللبنانيين جوزيف عون ونواف سلام من توقيع اتفاقيات أميركية تنص على نزع سلاح المقاومة، بينما يقوم الاحتلال الإسرائيلي ببناء معسكرات تحاكي لبنان على أرض قريبة؟ يوضح هذا التناقض مدى الفجوة بين التحركات السياسية اللبنانية والإعداد العسكري الإسرائيلي، ويبرز هشاشة الردع المحلي أمام استراتيجية الاحتلال التوسعية. ويدل على عدم التزام الاحتلال أو احترامه لأي مواثيق واتفاقيات وأن أي اتفاق سيوافق عليه لبنان سيكون عرضة للاختراق ولن يشكل أبداً أي ضمانة للسيادة كما تدعي السلطة في لبنان.
تاريخياً، ليس استعمال عين فيت كمعسكر تدريبي حالة فريدة، فقد سبق للاحتلال أن بنى قرى تدريبية في النقب لتحاكي مناطق بيروت، وقاعدة "تسيئيليم" لمواجهة الأنفاق والصواريخ قبل حرب غزة 2014. لكن ما يميز عين فيت هو محاكاة القرى اللبنانية بشكل مباشر، ما يعكس مدى الاهتمام الإسرائيلي بامتلاك سيناريوهات جاهزة لأي مواجهة مستقبلية على الحدود الشمالية مع فلسطين المحتلة، واستغلال كل تضاريس الجولان لصالح الاستعداد العسكري. ولا تقتصر أهمية الجولان على البعد العسكري فقط، فالمياه والبترول والغاز فيها تشكل مكاسب استراتيجية كبيرة للاحتلال، ما يزيد من دوافعه للحفاظ على سيطرته الكاملة على المنطقة.
تظهر تجربة عين فيت كيف أن الاحتلال الإسرائيلي لا يكتفي بالسيطرة على الأراضي المحتلة، بل يستثمر كل فترة ضعف سياسي أو انشغال في الدول المجاورة لصالحه. ففي الوقت الذي تغرق فيه الحكومات اللبنانية في النقاشات حول نزع سلاح المقاومة، ويقع المسؤولون بين ضغوط أميركية ومحاولات للتهدئة، يستغل العدو هذه الفرصة للتدريب المكثف، وبناء سيناريوهات قتالية، واكتساب خبرة ميدانية متقدمة لمحاكاة القرى اللبنانية والتعامل مع التحديات على الحدود الشمالية.
هذا الواقع يشير بوضوح إلى أن "إسرائيل" لا تسعى إلى أي تهدئة حقيقية، بل تحوّل الوقت الذي تهدره الدولة اللبنانية في المناقشات السياسية إلى فرصة لتطوير قدراتها العسكرية، وإحكام قبضتها على أي مواجهة مستقبلية محتملة. كما يوضح أن استعداداتها تتجاوز "الدفاع"، لتصل إلى مرحلة التخطيط الاستراتيجي طويل الأمد، بما يعكس رؤية توسعية واضحة، ومشروعاً متكاملاً للسيطرة وإحكام القبضة، مستفيدةً من أي انقسام أو ضعف في المنطقة.
الكاتب: غرفة التحرير