الثلاثاء 18 تشرين ثاني , 2025 10:59

ماذا يجري في فنزويلا؟

تتكثّف اليوم في الكاريبي مؤشرات انزلاق خطير يعيد الولايات المتحدة وفنزويلا إلى قلب مواجهة جيوسياسية كبرى لم تنقطع جذورها منذ ربع قرن. فالهجوم الأميركي على سفينة صيد فنزويلية في أيلول/ سبتمبر الماضي كشف استعداداً أميركياً لاستخدام القوة المباشرة بذريعة "الحرب على المخدرات"، فيما تتجه كل المؤشرات إلى مسار مختلف تماماً يرتكز على إعادة رسم ميزان القوة في منطقة تُعَدّ خزّاناً للطاقة ومسرحاً تاريخياً لنفوذ واشنطن.

منذ ذلك الهجوم الأول، تصاعدت الضربات الأميركية التي استهدفت ما لا يقل عن عشرين سفينة في الكاريبي وشرق المحيط الهادي، موقعة عشرات الضحايا، بالتوازي مع تمركز حاملة الطائرات جيرالد فورد مع ألوف الجنود وتسعة أسراب جوية ومجموعة كبيرة من القطع البحرية قرب السواحل الفنزويلية. وبحسب توصيف الصحف الأميركية ، فإن حجم هذا الحشد ليس روتينياً، ولا يمكن قراءته كامتداد لعمليات اعتراض تهريب المخدرات. فهو يشير إلى تحضير لسيناريو أوسع قد يصل إلى استطلاع امكانية اسقاط حكومة نيكولاس مادورو أو التدخل العسكري أيضاً.

تعود جذور الصدام بين الطرفين إلى عام 1999 ووصول هوغو شافيز إلى السلطة. فقد دشّن شافيز مشروعاً اقتصادياً-سياسياً اخذ منحى صدامياً مع واشنطن. كان بتأميم قطاع النفط، تقليص نفوذ الشركات الأميركية، وإعادة توزيع الثروة في إطار "الثورة البوليفارية". وقد تزامن ذلك مع محاولات أميركية متكررة لإعادة تشكيل ميزان القوى داخل فنزويلا، أبرزها دعمها الضمني لانقلاب 2002، وهو حدث ترك أثراً بنيوياً على نظرة كاراكاس لواشنطن، ورسّخ قناعة النخبة الفنزويلية بأن الولايات المتحدة لن تقبل بنظام سياسي يرفض اندماجاً كاملاً في المنظومة الأميركية.

التوترات النفطية بدورها شكّلت محور الصراع. فمنذ عام 2007، حين أجبرت الحكومة الفنزويلية الشركات العالمية على قبول حصص أقل أو الخروج، اختارت إكسون وكونوكو فيليبس المواجهة، فصادرت فنزويلا أصولهما، وتحوّل الملف إلى نزاع مالي وسيادي. في ذلك الوقت، كانت الولايات المتحدة تستورد 1.5 مليون برميل يومياً من النفط الفنزويلي، ما جعل الصراع ذا طابع استراتيجي يتعلق بالأمن الطاقوي الأميركي.

مع وفاة شافيز، ورث مادورو دولة تعاني هشاشة اقتصادية، سرعان ما تحوّلت إلى انهيار شامل بفعل الفساد وسوء الإدارة وانهيار أسعار النفط. فقد انكمش الاقتصاد بنسبة 75% خلال أقل من عقد، وارتفع التضخم إلى مستويات غير مسبوقة، فيما بات 40% من السكان في حالة "احتياجات غذائية حرجة". هذه الأزمة الداخلية منحت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، خلال ولايته الأولى، فرصة لشنّ حملة "ضغط قصوى" تمثّلت في عقوبات خانقة على قطاع النفط الفنزويلي، وتجميد مليارات الدولارات من أصول الدولة، ومنع الشركات الأميركية من التعامل مع شركة النفط الوطنية، قبل أن تُعاد العقوبات في مراحل لاحقة بعد تخفيف مؤقت خلال إدارة الرئيس جو بايدن.

اليوم، تتعامل كاراكاس مع التصعيد الأميركي بوصفه امتداداً لنفس المعركة. فمادورو يرى أن واشنطن لا تستهدف "شبكات التهريب" بل الثروات الاستراتيجية للبلاد. وفي خطابه الأخير في كراكاس، قال بوضوح إن الولايات المتحدة تسعى للسيطرة على "أكبر احتياطي نفطي في العالم" الذي تمتلكه البلاد، وإن فنزويلا تملك موارد زراعية هائلة واحتياطيات غازية تجعلها هدفاً مباشراً لأي مشروع نفطي-جيوسياسي أميركي في نصف الكرة الغربي. هذه المقاربة هي جزء من رؤية تستند إلى التاريخ الطويل لسياسات واشنطن في أميركا اللاتينية.

بالمقابل، تنظر الولايات المتحدة إلى فنزويلا باعتبارها نقطة ارتكاز لخصومها الاستراتيجيين. فعلى مدى العقدين الماضيين، تحوّلت البلاد إلى شريك عسكري وسياسي لروسيا والصين. وقادت كاراكاس عمليات شراء كبيرة لأسلحة روسية، وفتحت أبواب الاستثمار أمام الصين، وشاركت في محور دولي يصوغ نفسه بوصفه مناهضاً للهيمنة الأميركية. من منظور واشنطن، يمثل هذا التمحور تهديداً في منطقة تعتبرها تقليدياً مجالاً حيوياً.

في الحقيقة، ما يجعل الخطوة الاميركية الحالية مختلفة، أن حجم الحشد العسكري وطبيعته العملياتية يوحيان بأن الهدف ليس فقط ردعياً أو مجرد رسائل سياسية، بل إمكانية خلق واقع ميداني جديد. كما أن توقيت التصعيد يأتي في لحظة تعاني فيها فنزويلا هشاشة داخلية وتوتراً اجتماعياً، ما قد يُغري الإدارة الأميركية بالضغط لتغيير شكل السلطة أو فرض تسوية سياسية قسرية. في حين، يحمل هذا التحرك بصمة "سياسة الطاقة" الأميركية في سياق عالمي يتسم بعودة المنافسة الكبرى، وارتفاع أهمية الإمدادات غير الشرق أوسطية.

تستعد فنزويلا لمواجهة غير متكافئة تدرك أنها لا تستطيع خوضها بأساليب تقليدية. وهي تعتمد على عناصر دفاعية متعددة كشبكة صواريخ روسية، قوات برية بعديد يتجاوز الجيش فقط بل يمتد إلى فصائل مسلحة داعمة داخلياً، وتضاريس صعبة تجعل أي تدخل واسع مكلفاً. كما تستند كاراكاس إلى بنية خطاب تعبوي يعتبر أن المعركة تدور حول السيادة والموارد، وأن الضغط الأميركي يهدف إلى إعادة السيطرة على النفط والغاز وموقع البلاد الاستراتيجي في الكاريبي.

ما يتبلور اليوم هو لحظة مفصلية في علاقة واشنطن بفنزويلا، حيث تتقاطع دوافع تاريخية –من النفط إلى السياسة الإقليمية– مع حسابات القوة في زمن تنافس دولي خطر. ولا يبدو أن أحد الطرفين مستعد للتراجع، ما يجعل الكاريبي مرشحاً لمرحلة توتر عالية قد تعيد تشكيل الجغرافيا السياسية في أميركا اللاتينية.


الكاتب:

مريم السبلاني

-كاتبة في موقع الخنادق.

-ماجستير علوم سياسية.




روزنامة المحور