السبت 15 تشرين ثاني , 2025 12:41

أدوات الضغط الجديدة بتوقيع الخزانة الأميركية

الخزانة الأميركية تحاول "تجفيف مصادر تمويل حزب الله"

بعد فشل الأداة العسكرية في إخضاع حزب الله أو تفكيك قدراته خلال الحرب الأخيرة على لبنان وما بعدها، انتقلت الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة إلى استخدام سلاح آخر اعتبرته "شديد الفاعلية" عبر ممارسة الضغط المالي الأقصى على كل ما هو مرتبط بحزب الله -في الواقع هذا الضغط سيطال كل الحركة المالية في لبنان كي لا يهلهل البعض له-. هذا المسار ليس جديداً في جوهره، لكنه بلغ اليوم مستوى غير مسبوق من التدخل المباشر في آليات عمل القطاع المالي اللبناني، في محاولة لتضييق الخناق على الحزب عبر البيئة المصرفية والاقتصادية للدولة.

الضغط الأقصى

منذ أكثر من عام على اندلاع الحرب التي راهنت فيها واشنطن وتل أبيب على تحقيق "حسم" عسكري ضد حزب الله، تبيّن أن الرهان سقط بالكامل. لم تُحقق "إسرائيل" أهدافها، ولم تنجح الولايات المتحدة في فرض شروطها عبر الميدان. هنا بدأت تظهر الاستراتيجية البديلة -الخطة ب- التي تقضي بتجفيف الموارد المالية للحزب عبر الدولة اللبنانية نفسها والآليات الرقابية، التنظيمية، والأمنية، التي تُفرض على المصارف ومؤسسات التحويل والصرافة.

هذا التحوّل يعترف ضمنياً بفشل المقاربة العسكرية. وبالتوازي، يكشف محاولة نقل المعركة إلى ميدان جديد خصوصاً أن الاقتصاد اللبناني منهك أصلاً منذ 2019 أيضاً بسبب أميركا.

تعميم مصرف لبنان

أحدث الأمثلة على هذا المسار هو التعميم الأساسي رقم 3 الصادر عن مصرف لبنان، والموجّه إلى المؤسسات المالية والصرافة ومزوّدي خدمات التحويل والمحافظ الإلكترونية. ينصّ التعميم على إلزام الزبائن بتعبئة استمارة "اعرف عميلك" لكل عملية نقدية قيمتها 1000 دولار أو أكثر.

لكن خلف هذا الإجراء تكمن حقائق أساسية أولها أن هذا التعميم جاء بناءً على تعليمات مباشرة من مسؤولي وزارة الخزانة الأميركية خلال زيارتهم الأخيرة إلى بيروت، وكان حينها هدفهم المعلن "تجفيف موارد حزب الله".

الإشكالية تكمن في أن الإجراء يخالف القوانين اللبنانية، إذ إن سقف التصريح عن العمليات النقدية بموجب القانون رقم 42 الصادر في 24/11/2015 هو 15 ألف دولار. ما يظهر أن الدولة اللبنانية تطبّق قواعد أميركية بديلاً عن قواعدها الوطنية.

تنفيذ الإملاءات بلا نقاش

اللافت ليس فقط مضمون التعميم، بل الطريقة التي صدر بها. لم تُطرح الإجراءات للنقاش في مجلس الوزراء، ولم تُعرض على المجلس النيابي، ولم تُعدّل القوانين لتتوافق معها. ما يعني أن مصرف لبنان تحوّل – بضغط سياسي خارجي – إلى جهاز تنفيذي للتعليمات الأميركية.

يأتي ذلك في سياق أوسع من السياسات التي رافقت الأزمة المالية منذ 2020، حيث بدا أن مؤسسات الدولة مستعدة للقبول بأي شروط توضع أمامها ما دامت تعطيها شكلاً من أشكال "الشرعية الدولية" -التي ستظل مفقودة-. لكن في الواقع، هذه الإجراءات ليست سوى تفويض للقرار المالي والسيادي للخارج.

في مقابل هذا المناخ، صدر موقف كتلة الوفاء للمقاومة، حيث اعتبرت فيه أن: "الولايات المتحدة تسعى إلى تشديد الحصار المالي على لبنان لمنع إعادة الإعمار وابتزاز شعبه ودولته". وأن "وفد الخزانة الأميركية مارس إملاءات وقحة على الدولة اللبنانية". واعتبرت أن هذه الخطوات تأتي في إطار استكمال الحرب الإسرائيلية بوسائل مالية بعدما فشلت الوسائل العسكرية.

الرهان الأميركي

تعوّل الخزانة الأميركية على أن تجفيف مصادر التمويل سيجبر حزب الله على تقديم تنازلات سياسية، خاصة فيما يخص ملف السلاح. لكن التجربة الممتدة منذ أكثر من عقد تُظهر محدودية هذا الرهان حيث أن العقوبات السابقة لم تُغيّر في بنية الحزب ولا في قراراته. كما أ، الحرب الأخيرة لم تنجح في تقويض قدراته أو ردعه. كذلك بيئته الحاضنة لا تزال عامل قوة لا يمكن تجاوزها.

أما الخطر الحقيقي، فهو أن لبنان نفسه يتحمّل كلفة هذه الإجراءات، إذ تؤدي القيود المالية إلى مزيد من الشلل في القطاعات الإنتاجية، وتوسّع السوق السوداء، وتزيد من العزلة الاقتصادية.

بالطبع ليس جديداً أن تسعى الولايات المتحدة إلى قطع طرق التمويل. لكنها في معظم المرات انتهت إلى النتيجة نفسها: فشل الضغط في تحقيق الهدف السياسي.

من الأمثلة البارزة فشل الحصار على الفيول عام 2021، حيث أدخل حزب الله حينها سفن الفيول الإيرانية ووزعها على كافة المناطق اللبنانية، في خطوة كسرت الحصار النفطي وفرضت توازناً سياسياً جديداً داخل لبنان. كما أنه عزز من شبكات الدعم الاجتماعي والاقتصادي وخفف من تأثير العقوبات على بيئته. كذلك قدرته العسكرية استمرت رغم التضييق المصرفي منذ 2016 وحتى اليوم.

تُظهر التطورات أن الولايات المتحدة انتقلت من الحرب العسكرية إلى الحرب المالية، وأن الدولة اللبنانية استجابت بشكل كامل لهذا التحوّل، عبر تنفيذ قرارات تتجاوز قوانينها وتمسّ بسيادتها. لكن التجربة تثبت أن حزب الله لا يمكن إخضاعه عبر الاقتصاد، وأن الضغط على مجتمعه لن يغيّر في موقعه أو دوره.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور