منذ اللحظة الأولى التي أُعلن فيها اتفاق وقف إطلاق النار في غزة وفقاً لخطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بدا واضحاً أن المرحلة الأولى من الاتفاق ليست سوى بناء سياسي مبدئي هدفه ضبط الإيقاع الميداني، فيما تُركت المرحلة الثانية معلّقة في فضاء من الغموض، كأنها مجرد احتمال قابل للتأجيل إلى ما لا نهاية. ورغم أنّ المقاومة الفلسطينية التزمت بكل ما جاء في المرحلة الأولى – من تسليم الأسرى "الإسرائيليين" الأحياء، إلى التعاون في تسليم الجثامين، وصولًا إلى تثبيت الانسحابات المتفق عليها غرب القطاع – فإنّ "إسرائيل" والولايات المتحدة تتعاملان مع الاتفاق بمنطق تقليدي تعوّدته القوى الكبرى: تنفيذ ما يفيدها فورًا، وتعطيل ما يقيّد يدها لاحقًا.
الظاهر أن التعطيل ليس وليد خلافات فنية، ولا هو نتيجة اختلاف حول آليات التنفيذ، بل هو انعكاس مباشر لعقيدة سياسية راسخة: ما من اتفاق تُلزم به "إسرائيل" نفسها بالكامل ما لم تكن قادرة على إعادة تفسيره وتشكيله بما يخدم مصالحها الاستراتيجية. لذلك، لم يكن مفاجئًا أن تتحول المرحلة الثانية، التي يفترض أن تُخرج الاحتلال من معظم غزة، إلى عقدة سياسية، بل إلى نقطة مقاومة "إسرائيلية" واضحة، تُستخدم فيها ذرائع متلاحقة لتبرير التأجيل.
المرحلة الثانية: جوهر الاتفاق… وخوف الاحتلال
بحسب بنود الاتفاق، تفرض المرحلة الثانية انسحابًا شبه كامل من قطاع غزة، بما يشمل المناطق الشمالية والشرقية والجنوبية التي ما زالت خاضعة للسيطرة العسكرية "الإسرائيلية". وتُعدّ هذه المرحلة بمثابة اختبار لنية "إسرائيل" في إنهاء وجودها العسكري الفعلي، وفتح الطريق أمام الهيئة الدولية المؤقتة، التي سُمّيت "مجلس السلام"، لتسلّم المسؤوليات الأمنية والإدارية تمهيدًا لعودة الحياة الطبيعية للقطاع.
لكنّ هذه المرحلة لم تبدأ. وهنا يكمن السؤال الذي يتجاوز مستويات التحليل السطحية: ما الذي تخشاه "إسرائيل" من الانسحاب؟
الجواب، وفق منطق القوة، بسيط ومعقّد في آن: الانسحاب يعني نهاية القدرة على فرض الهندسة الجغرافية والاجتماعية التي تعمل عليها منذ بداية الحرب. الانسحاب يعني تثبيت واقع فلسطيني جديد يستعيد مساحة الحركة السياسية والميدانية. والأهم، يعني نهاية مرحلة "إعادة تشكيل غزة" التي كان الهدف منها تجريد المقاومة من قدراتها عبر السيطرة المباشرة على 53% من المساحة الجغرافية، وهي المناطق التي بقيت تحت الاحتلال خلال المرحلة الأولى.
بمعنى آخر، "إسرائيل" تعمل على تنفيذ نزع سلاح المقاومة فعليًا قبل الدخول في المرحلة الثانية، عبر تدمير البنى التحتية في المناطق التي تحتلها، من دون أن تقدّم أي التزام حقيقي بالانسحاب لاحقًا. إنها محاولة لكتابـة الاتفاق بصيغة إسرائيلية: انسحاب شكلي بعد أن يتحقق الهدف الأمني الأساسي.
الذرائع الإسرائيلية: من الجثامين إلى أنفاق رفح
حين سلّمت المقاومة الأسرى الأحياء، ظهر أول معوّق "إسرائيلي": الجثامين. واللافت أن ملف الجثث تحول، بقدرات سياسية وإعلامية هائلة، إلى "شرط أمني" لتعليق المرحلة الثانية. وبعد أن تراجع ثقل هذا الملف، ظهرت ذريعة جديدة: بقايا المقاتلين داخل الأنفاق في رفح.
هذه الذرائع لا تعكس قلقًا أمنيًا حقيقيًا، بل تعبّر عن استراتيجية "إسرائيلية" أكثر عمقًا: إبقاء الاتفاق مفتوحًا على التأويل، بحيث يمكن استخدام أي حدث لتبرير استمرار الاحتلال. إنها السياسة ذاتها التي حكمت سلوك "إسرائيل" منذ عقود: الالتزام بالبنود المفيدة، والتهرب من البنود الرديفة التي قد تخلق واقعًا سياسيًا جديدًا لا يناسبها.
هندسة الجغرافيا: تثبيت الخط الأصفر
من أبرز نتائج المماطلة "الإسرائيلية" تثبيت ما يسمى بـ"الخط الأصفر"، وهو خط فاصل بين مناطق السيطرة الفلسطينية وتلك التي تبقى تحت السيطرة العسكرية "الإسرائيلية". هذا الخط، الذي يفترض أن يكون مؤقتًا، بدأ يتحول إلى واقع دائم، تمامًا كما تحولت المناطق "ج" في الضفة الغربية إلى واقع لا يمكن فصله عن نظام الأبارتهايد "الإسرائيلي".
إنّ تثبيت هذا الخط ليس مجرد إجراء عسكري، بل هو جزء من عملية أوسع هدفها إعادة انتاج الجغرافيا السياسية للقطاع. فالمناطق التي بقيت تحت السيطرة تُعاد صياغتها أمنياً واجتماعياً واقتصادياً بما يجعلها نموذجًا يمكن لإسرائيل استخدامه لاحقًا لتبرير فصل دائم، يتيح لها التحكم بغزة من دون تحمل أعباء الاحتلال المباشر.
الموقف الأميركي: بين الرعاية والتواطؤ
الولايات المتحدة، كما جرت العادة، تتظاهر بأنها "الوسيط الضامن"، بينما تلعب الدور الأكثر حسماً في تعطيل المرحلة الثانية.
فخطة ترامب، التي قامت على عموميات واسعة وصلاحيات غير واضحة لـ"مجلس السلام"، لم تُصمّم أساسًا لتفرض انسحابًا كاملاً، بل صيغت بطريقة تسمح لواشنطن أن تكون الحاكم الفعلي للمرحلة الانتقالية. وهذا يتيح لها إعادة تشكيل غزة بما يتوافق مع مصالحها الأمنية واستراتيجيتها الإقليمية.
ووفق التسريبات الإعلامية، تدرس واشنطن إنشاء قواعد عسكرية شرق غزة مرتبطة بغرفة العمليات الأميركية في كريات جات، والتي تراقب القطاع منذ اللحظة الأولى. هذا يعني أنّ الانسحاب "الإسرائيلي" الموعود في المرحلة الثانية سيبقى شكليًا، طالما أن البنية الأمنية الفعلية ستظل مرتبطة بالأميركيين.
إنّ هذه الترتيبات لا تعكس فقط عدم استعجال أميركي لبدء المرحلة الثانية، بل تعكس كذلك رغبة واضحة في إبقاء غزة تحت سقف السيطرة "الأميركية–الإسرائيلية" المشتركة، بحيث يكون أي تغيير سياسي مشروطًا بموافقة الطرفين.
استراتيجية الضغط على الفلسطينيين
تدرك الولايات المتحدة و"إسرائيل" أن الانتقال إلى المرحلة الثانية يعطي الفلسطينيين مكسبًا سياسيًا واستراتيجيًا كبيرًا: إنهاء الاحتلال من معظم القطاع، وفتح الباب لإعادة الإعمار، وتثبيت وضع جديد لا تستطيع إسرائيل التحكم فيه كما تفعل الآن.
لذلك، تستمر سياسة الضغط التدريجي:
- إغلاق المعابر أو فتحها وفق سياسة "التقطير".
- إدخال كميات محدودة من المساعدات، بما في ذلك الخيام والكرفانات، لإبقاء المجتمع في حالة هشاشة دائمة.
- منع أي إجراءات تمهّد لعودة النازحين.
- واستخدام الوقت كأداة تفاوضية لتليين موقف حماس من الملفات الكبرى: نزع السلاح، وإعادة هيكلة النظام الإداري والأمني.
بهذا المعنى، يتحول الاتفاق إلى أداة لإخضاع الفلسطينيين، بدل أن يكون إطارًا لإنهاء الاحتلال.
المرحلة الثانية بين ضرورة فلسطينية وممانعة إسرائيلية
المرحلة الثانية ليست مجرد بند في اتفاق معقّد، بل هي المفصل الحقيقي الذي يكشف جوهر اللعبة السياسية: هل الهدف هو تثبيت وقف إطلاق النار، أم إعادة صياغة القطاع بما يتناسب مع مصالح الاحتلال؟
وحتى الآن، يبدو أن واشنطن و"تل أبيب" تنظران إلى المرحلة الأولى كأرضية مناسبة لإدامة سيطرتهما. ولأن المقاومة التزمت بالاتفاق وقدّمت ما عليها، تحاول "إسرائيل" استخدام هذا الالتزام ضدها، عبر تحويل المرحلة الثانية إلى بوابة لشروط جديدة.
لكنّ الحقيقة الأساسية تبقى واضحة:
الانتقال إلى المرحلة الثانية ليس فقط مصلحة فلسطينية، بل هو الشرط الوحيد الذي يمكن أن يفتح الطريق نحو إعادة إعمار غزة، وعودة النازحين، وتأسيس حياة سياسية واجتماعية خارج الهيمنة العسكرية. وكل يوم تأخير، ليس إلا محاولة إضافية لتحويل المؤقت إلى دائم، والاتفاق إلى أداة لضبط الفلسطينيين بدل أن يكون خطوة نحو إنهاء الاحتلال.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]