الأربعاء 05 تشرين ثاني , 2025 02:25

غزة بين التهدئة والخداع: "إسرائيل" تنفّذ الإبادة على مهل

الإبادة في غزة

ليست التهدئة في غزة سوى فصل جديد في رواية الإبادة، لكنها هذه المرّة تُقدَّم في غلاف "إنساني" محبوك بعناية. لم تتوقف الحرب، بل غيّرت أدواتها وإيقاعها، وتحوّلت من القصف الكثيف إلى الخنق البطيء، من النار المشتعلة إلى الجوع الممنهج، ومن القتل الجماعي إلى العقاب الإداري الجماعي، الذي لا تقلّ وحشيته عن القنابل. هذه هي الحيلة الكبرى: أن تُقتل أمة وهي تصدّق أنّها تتنفس.

إنّ "التهدئة" ليست سوى مفردة مضلّلة، هندستها واشنطن وتبنّاها ثلاثي الوساطة الدولي، لتغطية الفشل الأخلاقي والسياسي للنظام العالمي أمام جرائم موثّقة في وضح النهار. فبدلًا من مساءلة الجلّاد، يجري إشراكه في هندسة ما بعد المجزرة، وكأنّ العدالة يمكن أن تولد من رحم القاتل. هذه هي الصيغة الإمبراطورية الجديدة لإدارة الحروب: لا وقف إطلاق نار حقيقي، بل إعادة ترتيب لموازين السيطرة تحت سقف القتل "المخفّف".

تعيش غزة اليوم تحت وهم مزدوج: وهم وقف الحرب، ووهم عودة الحياة. وبينهما، تسير "إسرائيل" بخطى ثابتة نحو تحقيق هدفها الأعمق: تفكيك المجتمع الفلسطيني من الداخل. فحين يتوقف العدوان المباشر، لا يعني ذلك سوى أن أدوات التدمير قد تغيّرت: من الطائرات إلى المعابر، من المدافع إلى التصاريح، من الدمار المادي إلى التجويع المنهجي. إنّها إبادة على مهل، بطيئة، محسوبة، تُدار بعناية بيروقراطية صارمة.

لقد نجحت أمريكا، كما في كل مرة، في تحويل "الاستثناء" إلى "قاعدة". ما بدأ كمرحلة انتقالية بين الحرب والسلام، أصبح نظامًا دائمًا من السيطرة. الحصار المستمر، والمساعدات التي تدخل بالقطّارة، والتهجير الذي يُسمّى "إخلاءً مؤقتًا"، كلّها حلقات في عملية سياسية عسكرية متكاملة تهدف إلى تطبيع المأساة. ولأن العالم اعتاد على مشاهد الدمار، فإنّ الصمت أصبح جزءًا من السلاح.

الوساطة الأميركية – ومعها شركاؤها من مجموعة الثماني – ليست بريئة. فالهدف الحقيقي ليس إنهاء الحرب، بل إدارتها بطريقة تخدم حسابات واشنطن الإقليمية. الولايات المتحدة تدرك تمامًا أنّ استمرار النار يُضعف صورتها كقوة "راعية للسلام"، لكنها في الوقت ذاته، لا تملك إرادة كبح اليد "الإسرائيلية". وهكذا، تبتكر واشنطن صيغة وسطى: تهدئة لفظية، تغطّي استمرار الحرب بوسائل أخرى.

من هنا، يصبح "وهم التهدئة" أداة هيمنة بحد ذاته. فهو يخلق انطباعًا بأن الأمور تسير نحو الحل، بينما الواقع يزداد تدهورًا. إنه شكل جديد من أشكال السيطرة، قائم على إنتاج الرضا الكاذب، وإقناع الضحية بجدوى الانتظار. إنها نسخة معاصرة من إدارة المستعمرات القديمة: حرب تُدار عبر المساعدات، وعقوبات تُقدَّم في عباءة الشراكة الإنسانية.

في المشهد الحالي، تعمل "إسرائيل" على نسخ نموذجها في لبنان، حرب بلا نهاية معلنة، ولكن بحدود "مضبوطة" دوليًا. الهدف هو أن تبقى غزة ساحة مستنزفة، عاجزة عن التعافي، محرومة من مقومات السيادة أو النهوض. تُدار الأوضاع فيها كما تُدار شركة مفلسة تحت الوصاية: كل شيء يخضع للتدقيق، وكل قرار يحتاج إلى موافقة من الخارج، حتى الحق في الحياة.

أما واشنطن، فهي تمارس لعبة مزدوجة: تدّعي الحياد بينما تدير خيوط اللعبة من خلف الستار. فهي تمنح "إسرائيل" الغطاء الكامل للاستمرار في سياسة العقاب الجماعي، وفي الوقت ذاته تضغط على الوسطاء العرب كي يقدّموا للضحايا وهمًا جديدًا باسم "المسؤولية الإنسانية". هكذا، تتحوّل الأخلاق إلى أداة سياسية، وتصبح "المسؤولية" واجهة لتبرير استمرار الاحتلال بصيغٍ جديدة.

الأنظمة العربية والإسلامية، التي تبنّت مبادرة ترامب وأعطتها شرعية سياسية، تتحمّل قسطًا من هذه الجريمة الصامتة. فصمتها عن الانتهاكات اليومية، وقبولها بآليات تنفيذ تُدار حصريًا من واشنطن وتل أبيب، جعلاها شريكة في تكريس الوضع القائم. إنها مسؤولية لا يمكن إخفاؤها وراء حجج "الواقعية" أو "الحرص على الاستقرار". فحين يُقتل الناس في المخيمات ويُحاصر الأطفال في المستشفيات، لا يكون الحياد سوى تواطؤًا مزيّنًا بالدبلوماسية.

ما يجري اليوم هو أكثر من إدارة حرب: إنه إعادة هندسة للواقع الفلسطيني. فالإعمار المؤجل يعني بقاء الدمار كجزء من المشهد الدائم، والمساعدات المقيّدة تخلق تبعية اقتصادية مستمرة، والهدنة الهشّة تضمن لـ"إسرائيل" حرية القتل حين تشاء. كل ذلك يُنتج نظامًا جديدًا، يُسمّى «ما بعد الحرب»، لكنه في جوهره استمرار لها بأساليب أخرى.

ولأن التاريخ لا يُكتب بالصدفة، فإنّ "إسرائيل" تراهن على ذاكرة قصيرة لدى العالم، وعلى نظام دولي فقد قدرته على الغضب. فحين يُستبدل مفهوم العدالة بمفهوم "الاستقرار"، يصبح كل شيء ممكنًا: الاحتلال يُسمّى "إدارة انتقالية"، والتجويع يُقدَّم كـ"إجراء أمني"، والتهدئة تتحوّل إلى أداة إبادة مؤجلة.

إنّ ما يحدث في غزة ليس مجرد مأساة إنسانية، بل دليل حيّ على تواطؤ النظام الدولي مع الجريمة. فحين تُقاس حياة الفلسطينيين بعدد الشاحنات المسموح دخولها، وحين يُبرّر القتل بنسبة "انخفاض الضحايا" من 200  شخصًا يوميًا إلى ما بين 20-50 يوميًا،  فإننا نكون قد بلغنا ذروة الانحدار الأخلاقي.

غزة اليوم ليست فقط ضحية العدوان "الإسرائيلي"، بل ضحية سردية دولية خادعة، تصوّر المأساة كـ"أزمة إغاثة" بدل أن تراها جريمة استعمارية. وبهذا المعنى، فإنّ الحرب لم تتوقف يومًا، بل تغيّر شكلها فقط.

إنّ إنقاذ غزة يبدأ من كسر هذا الوهم، من تسمية الأشياء بأسمائها: ليست هناك "تهدئة"، بل استمرار للإبادة بوتيرة أبطأ. ليست هناك "وساطة"، بل إدارة استعمارية جماعية. وما لم تُكسر هذه المعادلة، ستظل غزة تعيش على حافة موتٍ مؤجّل، في عالمٍ يبرع في صناعة الأكفان اللفظية بدل العدالة الفعلية.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]




روزنامة المحور