تُجرى في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025 انتخابات جديدة في العراق وسط مشهد سياسي معقّد تتجدد فيه ظاهرة التمويل الخارجي. فبين الدعم التركي لبعض المكوّنات، والتمويل الخليجي الذي يراد من خلاله إعادة التموضع داخل الساحة العراقية، يبدو أن العملية الانتخابية مهدّدة بأن تتحول مجدداً إلى ساحة استثمار سياسي وإقليمي. ويجدر الذكر أن التمويل لا يُقدَّم بوصفه دعماً بل كأداة نفوذ، ما يجعل المواطن العراقي في حالة حيرة بين خيارات تمثل مصالح الخارج أكثر مما تعبّر عن إرادته.
تركيا بين التركمان واستثمار المكوّن السني
تعتمد أنقرة في نفوذها داخل العراق على البعد القومي التركي وورقة التركمان في كركوك والموصل وتلعفر لا سيما الجبهة التركمانيةالعراقية. فهي تظهر كراعية لهم في خطابها السياسي، لكنها عملياً تتعامل معهم كأداة ضغط لضمان مصالحها الأمنية والاقتصادية في الشمال العراقي.
تُعد الجبهة التركمانية العراقية الواجهة الأبرز للنفوذ التركي، إذ تتلقى دعماً سياسياً واقتصادياً مباشراً من أنقرة. غير أن العلاقة بين الطرفين ليست متكافئة؛ فحين تتعارض أولويات أنقرة مع مصالح التركمان المحليين، تُغلّب تركيا حساباتها القومية على أي التزام تجاههم، ما يخلق شعوراً بالخذلان داخل الوسط التركماني نفسه.
في الموازاة، تستثمر تركيا أيضاً في المكوّن السني عبر قنوات سياسية وشخصيات محسوبة على تحالف السيادة أو على القوى التقليدية في نينوى والأنبار وصلاح الدين. ويأتي هذا التمويل مغلفاً بالمشاريع الخدمية التي تنفذها "الوكالة التركية للتعاون – تيكا"، لكنها في الواقع أدوات نفوذ سياسي وتوجيه انتخابي غير مباشر.
التمويل الخليجي وإعادة التموضع
النفوذ الخليجي، بخاصة السعودي والإماراتي، عاد بقوة إلى المشهد العراقي من خلال دعم بعض التحالفات السنيّة مثل خميس الخنجر والحلبوسي ووسائل الإعلام المقرّبة منها. وبالطبع لا يصرف التمويل علناً، بل يمر عبر واجهات اقتصادية وخيرية، أو عبر رجال أعمال يتولون تمويل الحملات الانتخابية وتقديم الخدمات في المحافظات الغربية.
وتسعى الدول الخليجية عبر هذا التمويل كما تدعي في الخفاء طبعاً إلى "إيجاد توازن سياسي مع النفوذ الإيراني في بغداد"، ولذلك تدعمان القوى التي تُظهر استعداداً للتقاطع مع هذا الدور. علماً أن هذا لا يعود بالنفع لا على المواطن العراقي السني ولا الشيعي. أما قطر فتتخذ منحى إعلامياً أكثر من تمويلي مباشر، مركّزة على دعم الأصوات التي ترفع شعار "الهوية السنية المعتدلة". بهذا المعنى، يتحول التمويل الخليجي إلى أداة لإعادة تشكيل المشهد وفق رؤية الدول الممولة بعيداً عن تطلعات الناخب العراقي واحتياجاته.
استثمار أميركي في التيار المدني الشيعي
بينما تنحصر المنافسة الإقليمية بين تركيا والخليج على المكوّن السني، تتحرك الولايات المتحدة في الفضاء الشيعي عبر دعم التيار المدني وبعض الشخصيات المستقلة. هذا الدعم يُقدَّم غالباً بغطاء "برامج ديمقراطية وتنموية" تشرف عليها الوكالات والمنظمات المدنية ومؤسسات الاتحاد الأوروبي، لكن هدفه الحقيقي هو خلق خرق داخل البيئة الشيعية المرتبطة بمحور المقاومة، ولا سيما في الأحزاب المنضوية في الحشد الشعبي.
تسعى واشنطن عبر أدواتها إلى إنتاج "جيل سياسي شيعي جديد معتدل" بحسب توصيفها ينفتح على أجندات الغرب ويبتعد عن خطه. ولا يعتمد هذا فقط على التمويل بل على التأثير الثقافي والإعلامي والتدخل في قيم المجتمع وإحداث خلل فيها.
التشظي الحزبي وانعكاس التمويل الخارجي
هذا التعدد في مصادر التمويل ولّد فوضى حزبية هائلة داخل العراق. فكل جهة إقليمية أو دولية تموّل مجموعة أو حزباً بهدف تمثيل مصالحها، مما أنتج أكثر من مئتين وخمسين حزباً، بعضها بلا قاعدة أو رؤية حقيقية.
ولهذا يلاحظ تكرار الانقسامات داخل الكتل نفسها، وظهور مرشحين جدد بعد كل دورة انتخابية، نتيجة هذا المال السياسي. وهكذا يجد الناخب العراقي نفسه أمام عشرات القوائم المتشابهة، من دون برامج وطنية واضحة، ما يعمّق شعوره بأن الانتخابات أصبحت وسيلة لتقاسم النفوذ لا لبناء دولة.
دوافع تركيا والخليج من التمويل
الدوافع المشتركة لتركيا ودول الخليج يمكن تلخيصها في ثلاث نقاط أساسية:
الولاء السياسي: كل طرف يسعى إلى صناعة حلفائه داخل البرلمان العراقي لضمان موقف مؤيد في القضايا الإقليمية. وضمان الولاء له داخل هذه القواعد.
الاستثمار الاقتصادي: السيطرة على العقود والمشاريع في الشمال والغرب العراقي، وفتح الأسواق أمام الشركات التركية والخليجية.
محاولة تقليص دور إيران في المنطقة ومنع العراق من أن يكون عمق استراتيجي لمحور المقاومة.
الكاتب: غرفة التحرير