الجمعة 10 تشرين أول , 2025 03:30

الانتشار العسكري للناتو: استراتيجية الهيمنة في عالم مضطرب

أعلام دول حلف الناتو

في عالم يتّجه نحو فوضى القوة، لم يعد حلف شمال الأطلسي مجرد منظومة دفاعية كما نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، بل تحوّل إلى أداة لتثبيت النفوذ الغربي في مواجهة تعدد الأقطاب. إنّ الانتشار العسكري الواسع للناتو في السنوات الأخيرة يكشف تحوّلاً عميقاً في فلسفة الحلف: من الدفاع عن أوروبا إلى محاولة إعادة صياغة موازين القوى في العالم، عبر السيطرة على البحار والمضائق والمجالات الجوية، واحتواء القوى الصاعدة التي تهدد هيمنة الغرب التاريخية.

تعيش الجغرافيا الدولية لحظة توتر متراكمة منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، التي تحولت إلى منصة اختبار لمستقبل النظام الدولي. فالحلف الذي لطالما قدّم نفسه كدرع دفاعي، دخل عملياً في صراع استنزاف مع روسيا، مستخدماً الأراضي الأوكرانية كساحة متقدمة للضغط العسكري والاقتصادي على موسكو. هذا التورط لم يعد يقتصر على تسليح كييف، بل تجاوز ذلك إلى إعادة تموضع شامل على الحدود الشرقية لأوروبا، حيث المناورات المتواصلة في البلطيق وبحر الشمال وبولندا وبلغاريا تعبّر عن نَفَس مواجهة طويلة الأمد. واللافت أنّ كل هذه التحركات تجري تحت شعار "الردع"، لكنها في جوهرها ترسّخ منطق التصعيد لا التوازن.

في المقابل، لا تبدو روسيا في وارد التراجع، إذ تعاملت مع التهديد الأطلسي بوصفه معركة وجود، فأعادت بناء عقيدتها العسكرية ووسّعت حضورها في البحر الأسود والقطب الشمالي وأوراسيا. هذا الاشتباك غير المباشر بين الناتو وروسيا أعاد إحياء أجواء الحرب الباردة، لكنه يتميّز اليوم بامتداده إلى فضاءات جديدة: الفضاء السيبراني، وحرب الأقمار الصناعية، والحرب الإعلامية، وكلها ساحات باتت تُدار فيها معارك النفوذ والتفوق.

في الشرق الأقصى، تتجه بوصلة الحلف نحو الصين، حيث تتكامل السياسات الأميركية والأطلسية في محاولة لاحتواء بكين عبر شبكة تحالفات تمتد من اليابان إلى أستراليا والهند. فالمناورات في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ ليست سوى مقدمات لصياغة جبهة بحرية تحاصر الصين اقتصادياً وعسكرياً، في وقت تعتبر فيه الأخيرة أنّ محاولات الغرب تمسّ صميم أمنها القومي ووحدتها الجغرافية، خصوصاً في ملف تايوان. هكذا تتقاطع خطوط المواجهة بين أوروبا وآسيا، لتجعل من حلف الناتو لاعباً كوكبياً يسعى إلى فرض نموذج الهيمنة الاستباقية على نظام دولي لم يعد قابلاً للضبط بالأدوات القديمة.

أما الشرق الأوسط، فيبقى في صلب الحسابات الغربية رغم تراجع حدّة الحضور العسكري المباشر. فوجود القواعد الأميركية في الخليج، وحاملات الطائرات في بحر العرب والبحر الأحمر، والمناورات المشتركة مع مصر وتركيا واليونان، كلها تمثّل خيوط شبكة نفوذ تضمن مراقبة الطاقة والممرات الاستراتيجية، وتطويق إيران من البر والبحر. غير أنّ توازن الردع الذي فرضته طهران بصواريخها الدقيقة وشراكاتها العسكرية مع روسيا والصين، جعل خيار الحرب المباشرة ضدها مغامرة مكلفة، وفرض على واشنطن وحلفائها إعادة ترتيب أولوياتهم العسكرية.

تتحرك الولايات المتحدة ضمن هذه اللوحة كقائد فعلي للناتو، إذ تحاول إدارة الرئيس الأميركي ترميم صورة القيادة الغربية التي تآكلت في العقدين الأخيرين بفعل فشل الحروب الطويلة في الشرق الأوسط، وصعود قوى منافسة تملك أدوات تكنولوجية واقتصادية لا تقل فاعلية عن أدوات الغرب. لذلك باتت واشنطن تنظر إلى الانتشار العسكري كوسيلة لإعادة إنتاج الردع الشامل لا كاستعراض للقوة فقط، في حين تنخرط دول أوروبا تحت المظلة الأطلسية مدفوعةً بمخاوفها من الانكشاف الأمني أمام روسيا.

لكن هذا التوسع العالمي يطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل الحلف نفسه. فكلما توسّع نطاق عملياته، ازداد تباين المصالح داخله، بين دول تبحث عن الحماية ودول تسعى إلى الهيمنة. ثمّة تناقض بنيوي بين خطاب الناتو الذي يرفع شعار الدفاع عن الديمقراطية، وممارساته التي تحوّله إلى أداة لتقويض سيادة الدول باسم الأمن الجماعي. في الواقع، يعكس هذا التناقض مأزق الغرب في إدارة انتقال النظام الدولي من القطبية الأحادية إلى التعددية: لا يريد الاعتراف بالتغيّر، لكنه مضطر للتعامل معه.

ومع تزايد أعباء الجبهات المفتوحة من البلطيق إلى بحر الصين الجنوبي، ومع ارتفاع كلفة الانتشار اللوجستي، يبدو الناتو أمام مرحلة استنزاف استراتيجي طويلة. فالحلف الذي اعتاد العمل في بيئة عالم أحادي، يجد نفسه اليوم في مواجهة قوى لا يمكن إخضاعها، بل فقط التعايش معها في توازنات جديدة. لذلك يبدو المشهد الدولي في عام 2025 أقرب إلى لوحة من التنافس الدائم على الأطراف، حيث لا حرب شاملة ولا سلم مستقر، بل إدارة للأزمات بالردع والمناورات والضغوط المتبادلة.

إنّ الانتشار العسكري العالمي لحلف الناتو لم يعد مجرّد تحرّك دفاعي أو رد فعل على تهديدات طارئة، بل أصبح جزءاً من مشروع لإعادة هندسة النظام الأمني العالمي بما يكرّس النفوذ الأميركي في وجه تحالفات جديدة آخذة بالتشكل. لكن هذه الهيمنة الممتدة على امتداد البحار والمحيطات تحمل في طياتها بذور الانقسام داخل الحلف نفسه، وتضع العالم على حافة مرحلة أكثر اضطراباً، حيث يُعاد تعريف الأمن لا بوصفه توازناً بين القوى، بل كمجرد احتكار للقدرة على إدارة الخطر.

لتحميل الدراسة بشكل كامل من هنا


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور