في أواخر آب/أغسطس 2025، قدّمت الدول الأوروبية الثلاث، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، إشعارًا رسميًا إلى مجلس الأمن الدولي يفيد بأن إيران لم تفِ بالتزاماتها الجوهرية بموجب اتفاق 2015 النووي (JCPOA). وبهذه الخطوة، فعّلت أوروبا آلية "الزناد" أو ما يُعرف بـ"snapback" المنصوص عليها في القرار 2231 لعام 2015. ومع انقضاء المهلة المحددة بثلاثين يومًا دون صدور قرار يحول دون إعادة فرض العقوبات، عادت عقوبات الأمم المتحدة لتدخل حيز التنفيذ، وأعلن الاتحاد الأوروبي من جهته إعادة تفعيل التدابير المقيدة الخاصة بالبرنامج النووي الإيراني.
تعتمد آلية الزناد على أساس قانوني واضح، إذ يحق لأي دولة مشاركة في الاتفاق أن تخطر مجلس الأمن بوجود خرق جوهري من جانب إيران. ويبدأ على إثر ذلك عدّ تنازلي لمدة ثلاثين يومًا، يُفترض أن يُتخذ خلالها قرار يضمن استمرار تعليق العقوبات، وإلا فإن العقوبات تعود تلقائيًا دون إمكانية استخدام الفيتو لوقفها. وبهذا، تصبح إعادة فرض العقوبات عملية أوتوماتيكية، تجعل من التراجع عنها مسألة شبه مستحيلة إلا عبر توافق دولي جديد.
وبناءً على هذا الإطار، أعيد تطبيق قرارات مجلس الأمن السابقة التي شكّلت العمود الفقري للعقوبات ضد إيران. بدأ الأمر مع القرار 1696 عام 2006 الذي طالب طهران بوقف تخصيب اليورانيوم والتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ثم القرار 1737 الذي وضع أول مجموعة عقوبات مُلزمة تحت الفصل السابع، مثل حظر نقل المواد والتكنولوجيا النووية وتجميد الأصول. تلاه القرار 1747 الذي وسّع العقوبات لتشمل حظر الأسلحة والتدابير المالية، ثم القرار 1803 الذي ركّز على تشديد القيود على الأنشطة النووية الحساسة وتقييد المساعدات الفنية. وجاء القرار 1835 ليؤكد على القرارات السابقة مجتمعة، بينما مثّل القرار 1929 لعام 2010 أوسع حزمة عقوبات سبقت اتفاق 2015، إذ شملت حظر بيع الأسلحة التقليدية، ومنع الدعم للبرنامج الصاروخي، وتجميد الأرصدة، وتقييد التعاملات المالية والنقل والتأمين. ومع تفعيل الزناد، عادت جميع هذه القرارات إلى حيز التنفيذ بقوة القانون الدولي.
أما عن دوافع أوروبا، فقد استندت إلى عدة مبررات أبرزها فقدان الوكالة الدولية "استمرارية المعرفة" بخصوص بعض أنشطة البرنامج النووي الإيراني بسبب القيود المفروضة على الوصول والتفتيش، إضافة إلى تقارير غربية تحدثت عن تراكم مخزون من اليورانيوم المخصّب بمستويات مرتفعة وبكميات غير مُعلنة. كما أشارت أوروبا إلى فشل المفاوضات الدبلوماسية وتعطيل فرص التصحيح، معتبرة أن إيران لم تعد تتجاوب مع متطلبات الوكالة الدولية. وفضلاً عن الملف النووي، تبرز المخاوف الأوروبية من برنامج الصواريخ الإيراني والأنشطة الإقليمية التي تُفاقم القلق الأمني.
بهذه الحجج، أرادت أوروبا إرسال رسالة مفادها أن أي خرق نووي ستكون له كلفة دولية متعددة الأطراف، وأن العودة إلى العقوبات وسيلة لإجبار إيران على استئناف التعاون مع الوكالة الدولية وإيضاح مصير مخزون اليورانيوم. كما تسعى أوروبا من خلال الضغط الاقتصادي والسياسي إلى دفع طهران نحو التفاوض، وإظهار نفسها كطرف متماسك مع شركائها الإقليميين والدوليين.
إعادة تفعيل العقوبات شملت عدة تدابير عملية، أبرزها حظر بيع وتصدير الأسلحة، تجميد الأصول المالية لبعض المؤسسات الإيرانية، فرض قيود على القطاع المصرفي، منع صادرات الطاقة والنفط، حظر تجارة المعادن النفيسة، وتقييد حركة بعض المسؤولين، إلى جانب قيود على النقل البحري والجوي والخدمات اللوجستية. وتُحدد اللوائح الوطنية تفاصيل تطبيق هذه العقوبات على الشركات والمؤسسات، ما يجعل آثارها أكثر شمولاً وتعقيدًا.
وتتعدد التداعيات المترتبة على هذه الخطوة. فمن الناحية السياسية، تُعتبر الخطوة الأوروبية انقلابًا على التزاماتها السابقة ضمن الاتفاق النووي، ما سيؤدي إلى فقدان الثقة بين طهران وبروكسل، وإغلاق قنوات الحوار المباشر، الأمر الذي سيضعف من مكانة أوروبا كوسيط في أي مفاوضات مقبلة. دبلوماسيًا، سيدفع هذا إيران أكثر نحو تعزيز علاقاتها مع روسيا والصين والهند، وتسريع إعادة تشكيل محاور دولية جديدة بعيدًا عن الغرب.
أما اقتصاديًا، فالعقوبات ستزيد من صعوبة تعامل إيران مع الأسواق الأوروبية وتُضعف قدرتها على تسويق النفط، لكنها لن تؤدي إلى انهيار شامل بفضل وجود قنوات بديلة عبر الصين والسوق السوداء. ومن المؤكد أن الشركات الأوروبية ستكون الخاسر الأكبر بخسارتها السوق الإيرانية لمصلحة روسيا والصين. أمنيًا، قد تدفع هذه الضغوط إيران إلى توسيع هامش تحركاتها الإقليمية وإبراز أوراق القوة عبر حلفائها، ما يضع أوروبا أمام مخاطر غير مباشرة تشمل الهجرة والطاقة والأمن الإقليمي. كما يظل خطر سباق التسلح النووي قائمًا في حال ردت إيران بتسريع خطواتها التقنية.
دوليًا، تُضعف هذه الخطوة مصداقية الاتفاقيات الدولية، وتُحرج الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي جرى استخدامها كغطاء سياسي للعقوبات، فيما يتعمق الانقسام داخل مجلس الأمن بين روسيا والصين من جهة وأوروبا والغرب من جهة أخرى.
في مواجهة ذلك، يُتوقع أن تعتمد إيران استراتيجية متعددة المستويات، تشمل التصعيد النووي المحسوب عبر زيادة التخصيب أو تقليص صلاحيات التفتيش، إلى جانب التحرك الدبلوماسي المعاكس في الأمم المتحدة والرأي العام العالمي، والانفتاح على الشرق بتعزيز التعاون مع الصين وروسيا والانضمام بقوة أكبر إلى تجمعات بديلة مثل "بريكس" و"شنغهاي". كما قد تلجأ إلى رد غير مباشر عبر أوراق نفوذها الإقليمي.
خلاصة القول، إن أوروبا لم تفِ بالتزاماتها منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018، بل انتظرت حتى اللحظة الأخيرة لتفعيل آلية الزناد. ورد إيران سيكون تدريجيًا ومدروسًا، موازناً بين التصعيد النووي والانفتاح على الشرق، بهدف استثمار هذا الموقف سياسيًا ودبلوماسيًا لإظهار فشل أوروبا في الحفاظ على التزاماتها. وبذلك، فإن الخطوة الأوروبية لا تُضعف فقط فرص التسوية، بل تُعجّل انتقال إيران إلى محور بديل وتُضعف مكانة الاتحاد الأوروبي كفاعل مستقل، فيما تتزايد المخاطر الأمنية والجيوسياسية في الشرق الأوسط.