الجمعة 21 تشرين ثاني , 2025 03:48

"إسرائيل" وقرار مجلس الأمن: الاحتفال بالنصّ والرهان على الالتفاف عليه

غزة ومجلس الأمن الدولي

من الصعب قراءة قرار مجلس الأمن رقم 2803 بمعزل عن الهياكل السياسية التي أنتجته، وفي مقدمتها المظلة الأميركية التي ما زالت، منذ عقود، تؤمّن لإسرائيل هامشاً واسعاً للمناورة، مهما بدا ظاهر النصوص الدولية صارماً. فالقرار، رغم صيغته القانونية التي توحي بتأسيس مرحلة جديدة في غزة، ليس سوى امتداد مباشر لمسار تاريخي تُستبدل فيه أدوات السيطرة، دون أن تتبدّل الغاية: إعادة إنتاج الهيمنة عبر قنوات "شرعية"، وتغليف القوة العسكرية بثياب القانون الدولي.

تظهر هذه المعادلة بوضوح عند قراءة سلوك الاحتلال بعد وقف إطلاق النار الأخير. فقد سُوّق للاتفاق بوصفه خطوة لإنهاء العمليات القتالية وإرساء استقرار نسبي، لكن العمليات العسكرية التي واصلها "الجيش الإسرائيلي" في الشجاعية وبيت حانون وخان يونس تكشف العكس: خروقات ممنهجة، إعادة هندسة للخرائط البشرية، ونسف للمنازل بهدف توسيع "الخط الأصفر" الذي تمثل المنطقة التي تحتفظ فيها "إسرائيل" بسيطرة ميدانية مباشرة. ومع رصد ما يزيد عن 400 خرق منذ بدء سريان وقف النار، بات من الواضح أن الاحتلال لا يتعامل مع الاتفاق بوصفه التزاماً متبادلاً، بل باعتباره أداة لتثبيت واقع جديد يسمح له بتحويل أي تقدّم ميداني إلى ورقة تفاوضية في المرحلة الثانية.

هذا السلوك ليس طارئاً، بل جزء من صيغة "إسرائيلية-أميركية" أوسع تتجلى اليوم في قرار 2803. فالقرار، رغم طابعه الدولي الواسع، كُتِب بروح أميركية-ترامبية واضحة، تسمح بالصدام مع القانون الدولي إذا تعارض الأخير مع "متطلبات الأمن الإسرائيلي". ولذلك، فإن "إسرائيل" تتعامل مع القرار باعتباره خريطة طريق تُمكّنها من تحقيق هدفين متوازيين: الأول، تثبيت شرعية تدخلها الميداني؛ والثاني، منع أي مآل سياسي لا يخدم رؤيتها طويلة المدى للقطاع، خصوصاً في ما يتعلق بنزع السلاح وتركيبة الحكم المحلي.

الاحتفال بالنصّ… ريثما يبدأ تطبيقه

تميل "إسرائيل" إلى تصوير القرار على أنه يمنحها معظم ما تريد: قوة حفظ استقرار دولية يُفترض أن تعمل بالتنسيق معها، بند واضح لنزع سلاح غزة، ربط الانسحاب من القطاع بإتمام هذه العملية، و"لجنة فلسطينية مهنية" غير سياسية قد تتحول إلى جسم إداري منزوع الإرادة. لكن هذا الاحتفال يخفي إدراكاً "إسرائيلياً" بأن هذه البنود، مهما بدت منسجمة مع المتطلبات الأمنية، ليست مضمونة التنفيذ. فإسرائيل تعرف جيداً أن تاريخ القوات الدولية في المنطقة – من اليونيفيل إلى قوات الطوارئ – لم يكن تاريخ نجاحات، وأن أي قوة دولية في غزة قد تواجه مصيرًا مشابهًا، بل ربما أصعب، نظراً لتداخل الفاعلين المحليين والإقليميين.

ومع ذلك، فالمهم بالنسبة للإحتلال ليس تنفيذ القرار كما هو، بل التأكد من ألا يُستخدم ضدها. هنا يكمن جوهر المقاربة "الإسرائيلية": تحويل القرار إلى منصة تمنحها شرعية إضافية دون أن تحد من حريتها الميدانية. ولهذا السبب تحديداً، تُصرّ الحكومة على تلقي "رسالة جانبية" من الإدارة الأميركية – نسخة جديدة من الرسائل التي تلقاها إيهود باراك عام 2000 بشأن جنوب لبنان – توضح كل النقاط الغامضة التي قد تمنح الفلسطينيين أو الأطراف الدولية مساحة لتقييد إسرائيل.

بمعنى آخر: تريد تل أبيب قراراً أممياً يُستخدم حين يخدم مصالحها، ويُعطّل أو يُعاد تفسيره حين يتعارض مع تلك المصالح.

الرهان على الالتفاف: آليات التحكم في ما بعد القرار

ما تخشاه "إسرائيل" فعلاً ليس النصّ، بل التنفيذ. ولذلك، تتعامل مع القرار عبر أربع قنوات للالتفاف والتحكم:

- قناة التنسيق مع القوة الدولية

إذ تركز على أن القوة ستعمل بالتنسيق معها ومع مصر، وليست خاضعة للأمم المتحدة إلا شكلياً. وهذا يمنحها حق الفيتو غير المعلن على أي قرار ميداني قد يحد من قدرتها على التدخل.

- قناة الحكم المدني الغامض

فمصطلح "سلطة الحوكمة للمرحلة الانتقالية" جاء غامضاً بما يكفي للسماح بتأويلات متعددة، منها ما يسمح للإحتلال بفرض ضغوط على تركيبة اللجنة الفلسطينية المهنية، خوفاً من تسلل عناصر مقربين من المقاومة.

- قناة التمويل غير الأممي

تمويل القوة عبر تبرعات الدول وبمساعدة البنك الدولي – وليس من الأمم المتحدة – يسمح بتقليص قدرة الأمم المتحدة على الرقابة، ويزيد نفوذ الدول الداعمة وعلى رأسها الولايات المتحدة و"إسرائيل".

- قناة الحق في التدخل العسكري

هنا يكمن أهم بنود الرسالة الجانبية المنتظرة: ضمان حق "إسرائيل" في التدخل العسكري بذريعة "خرق القرار". أي أن القرار قد يتحول إلى منصة تمنح "إسرائيل" رخصة دائمة للقيام بعمليات عسكرية في غزة دون أن تُعدّ خرقاً للشرعية الدولية.

الخشية "الإسرائيلية" من الغد… لا من اليوم

تعرف "إسرائيل" أن مشكلتها ليست مع إدارة ترامب الحالية، بل مع اليوم الذي يليها. ورغم الثقة الكاملة بالدعم الأميركي الآن، فإن تل أبيب تخشى سيناريو تتغير فيه الإدارة الأميركية، فتعود واشنطن إلى مقاربة أكثر "براغماتية" أو "مؤسسية"، تقلّ فيها درجة التساهل مع الخروقات "الإسرائيلية" للقرارات الدولية. لذلك تريد "إسرائيل" تثبيت تفسير القرار الآن، قبل أن تتغير الظروف السياسية في الولايات المتحدة. وهذا ما يفسر اندفاعها للحصول على تطمينات أميركية مكتوبة، تمنحها حقاً عملياً بالتحكم في تنفيذ القرار، مهما تغيرت الإدارات لاحقاً.

الجانب "الإسرائيلي" من القرار: بين المكاسب والهواجس

ترى "إسرائيل" أن القرار يحقق مكاسب مباشرة:

- تكريس نزع سلاح غزة كشرط لأي ترتيبات مستقبلية

وهذا هدف قديم تسعى إليه إسرائيل منذ عقود، لكنها أدركت أنه لا يمكن تحقيقه عسكرياً دون أثمان هائلة.

- شرعنة وجود قوة دولية تتعاون معها لا تتحدى نفوذها

وهو نموذج ترى أنه أقرب إلى قوات MFO في سيناء منه إلى اليونيفيل في لبنان.

- منع الأمم المتحدة من لعب دور إشرافي مباشر في المرحلة الانتقالية

وهو مكسب استراتيجي لأنه يمنح "إسرائيل" مساحة أوسع لممارسة الضغط على اللجنة الفلسطينية والقوة الدولية.

ومع ذلك، تتوقف المخاوف "الإسرائيلية" عند نقاط محددة:

- أن اللجنة الفلسطينية المهنية قد تضم عناصر لا تنسجم مع الرؤية الإسرائيلية.

- أن الغموض في آليات توزيع الصلاحيات بين مجلس السلام، والقوة الدولية، واللجنة الفلسطينية قد يفتح الباب لتوازن قوى لا ترغبه "إسرائيل".

- أن قرار 2803 قد يصير – في المستقبل – أساساً قانونياً لطرح مسار سياسي يتعلق بقيام الدولة الفلسطينية، وهو سيناريو ترى فيه المؤسسة الأمنية تهديداً استراتيجياً بعيد المدى.

القرار كآلية لتهديم القرار

لا يمكن فصل قرار 2803 عن سياق القوة. فالقرارات الدولية ليست أدوات لفرض القانون الدولي، بل انعكاس لميزان القوى في لحظة معينة. وعندما تكون الجهة الأقوى هي ذاتها الطرف المدعوم من القوة الأعظم في النظام الدولي، فإن القرار يصبح – عملياً – وسيلة لإعادة إنتاج الهيمنة وليس لإنهائها.

هذا ما يحدث اليوم: القرار الذي يُفترض أنه يحدّ من العنف، يتيح للإحتلال الإسرائيلي توسيع عملياتها الميدانية بذريعة "فرض شروط القرار". والقرار الذي يفترض أن يعزز الحكم المدني الفلسطيني، يمنح "إسرائيل" حقاً غير مباشر للتدخل في تشكيل اللجنة التي ستتولى شؤون القطاع. والقرار الذي يفترض أن يفتح الباب لإعادة الإعمار، يتحول إلى أداة لضبط المساعدات ومنع وصولها إلى جهات لا ترضى عنها "إسرائيل".

باختصار، ما يراهن عليه الاحتلال ليس تنفيذ القرار كما صوّت عليه مجلس الأمن، بل تنفيذ نسخته الخاصة منه. نسخة تُنتج استقراراً فوق الركام، لكنها لا تنتج استقلالاً ولا سيادة.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]




روزنامة المحور