في الثالث عشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2024، نفّذ حزب الله عملية نوعية في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة، استهدف خلالها قاعدة بنيامينا العسكرية جنوب حيفا. ومثلت العملية، التي نُفذت بطائرة مسيّرة انقضاضية صغيرة، تطوراً نوعياً في أداء المقاومة على المستويين التقني والاستخباراتي، وأعادت طرح سؤال جوهري داخل إسرائيل: كيف تمكّن حزب الله من اختراق منظومات الرصد والوصول إلى واحدة من أكثر القواعد حساسية في عمق الكيان؟
تفاصيل العملية ودلالاتها
بحسب الروايات الإسرائيلية، انفجرت المسيّرة داخل قاعة الطعام في معسكر تدريب لواء "غولاني"، وهو أحد ألوية النخبة في الجيش الإسرائيلي. قال أحد الجنود الذين كانوا في الموقع: "بينما كنا نتناول العشاء، اخترقت المسيّرة سقف الغرفة وسقطت في منتصفها، وانفجرت فوراً، ورأينا الدم والشظايا تتناثر". وكانت النتيجة، وفق الأرقام الرسمية، أربعة قتلى وعشرات الجرحى. لكن الأثر الأهم تمثل في الصدمة الأمنية التي أصابت المؤسسة العسكرية.
القناة 14 العبرية نقلت أن حزب الله امتلك معلومات استخباراتية دقيقة عن القاعدة، تضمنت جدول تحركات الجنود وموعد تناولهم العشاء. هذا التفصيل وحده كافٍ للإشارة إلى مستوى الرصد الذي وصلت إليه المقاومة، وإلى أن العملية لم تكن استهدافاً عشوائياً، بل نتاج عمل استخباراتي متقدّم سبقه إعداد طويل ومراقبة مستمرة.
اختراق الدفاع الجوي
ما يميّز عملية بنيامينا هو أنها كشفت عن ثغرة حقيقية في منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية. فالجيش أعلن قبل ساعات من الضربة أنه رصد طائرة مسيّرة، ثم "اختفى أثرها". بعد ذلك بوقت قليل، ضربت الطائرة نفسها داخل القاعدة. هذه المفارقة تُظهر أن حزب الله نجح في خداع الرادارات الإسرائيلية عبر استخدام مسيّرة صغيرة تعمل على ارتفاع منخفض، مع قدرات عالية على المناورة.
المعطيات اللاحقة رجّحت أن المسيّرة من طراز مرصاد 1، وهي مطوّرة عن المسيّرة الإيرانية "مهاجر 2". تبلغ سرعتها نحو 370 كم/ س، ومداها التشغيلي 120 كلم، ويمكنها حمل ما يصل إلى 40 كغم من المتفجرات. هذا الطراز مصمم ليعمل تحت غطاء صاروخي، ما يسمح له بالتقدّم نحو الهدف فيما تكون الدفاعات منشغلة بالتصدي للهجمات الصاروخية.
من هذه الزاوية، يُفهم أن العملية كانت جزء من استراتيجية إشغال وتشتيت متكاملة بدأت بإطلاق صليات من الصواريخ لتشويش الدفاعات، ثم إدخال طائرات مسيّرة انقضاضية إلى العمق. هذه المنهجية التي طوّرها حزب الله خلال الحرب تمثل تحوّلاً تكتيكياً لافتاً في طريقة إدارة المعركة.
ثغرة في التقدير الإسرائيلي
تُظهر ردود الفعل الإسرائيلية أن المؤسسة الأمنية كانت تفتقر إلى معلومات دقيقة حول نوع المسيرات التي يمتلكها حزب الله. طوال السنوات الماضية، ركّزت التقديرات على ترسانة الصواريخ، فيما أُهمل تطور القدرات الجوية التي تشمل المسيرات للمقاومة. وقد سمح هذا الفارق في التقدير لحزب الله باستغلال ثغرة أمنية واضحة، ما أدى إلى مباغتة العدو داخل معسكراته.
ووصف رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي الهجوم بأنه "صعب ومؤلم". فالضربة أصابت وحدة نخبة في مكان يُفترض أنه مؤمَّن على أعلى مستوى، وهذا ما جعلها ضربة معنوية وأمنية مزدوجة.
البعد الاستخباراتي والرسائل المضمّنة
وتتضمن بيان حزب الله عقب العملية عبارة لافتة: "المقاومة ترى وتسمع في كل مكان من الكيان". وهي مقصودة كإشارة إلى أن المقاومة باتت تمتلك قدرات رصد استخبارية مستمرة داخل العمق الإسرائيلي، وأنها تعرف مواقع القواعد وكذلك نشاطها.
أثار استهداف قاعدة بنيامينا ارتباكاً بين المستوطنين، إذ تبيّن أن كثيرين منهم لم يكونوا يعلمون بوجود قواعد عسكرية قريبة من مناطقهم. هذا أدّى إلى حالة خوف وتوتر، إذ بات الإسرائيليون يشعرون بأنهم عرضة للاستهداف غير المباشر نتيجة تداخل المنشآت العسكرية مع المناطق السكنية.
إنجاز نوعي وتحوّل في قواعد الاشتباك
من الناحية الاستراتيجية، مثلت عملية بنيامينا تفوقاً مزدوجاً أولاً، على مستوى الميدان من خلال الوصول إلى عمق غير متوقّع، وثانياً على مستوى العقل الجمعي الإسرائيلي الذي اهتزّ بفعل الضربة بعد اعتباره لسنوات أن هذه الأماكن المحصنة لا يمكن الوصول إليها. فالمقاومة لم تكتفِ بتأكيد قدرتها على الرد، بل أظهرت أنها تمتلك أدوات هجومية دقيقة قادرة على تجاوز الحدود والمعايير التقليدية للحرب.
بهذا المعنى، كرّست العملية معادلة ردع جديدة قائمة على مبدأ أن استهداف المدنيين في لبنان سيقابله استهداف عسكري نوعي في الداخل الإسرائيلي. كما أثبتت أن حزب الله بات يستخدم المسيرات ضمن منظومة متكاملة للحرب الذكية تجمع بين التكتيك الميداني والتخطيط الاستخباراتي.
فـ "إسرائيل" التي اعتقدت أن تفوقها التكنولوجي كفيل بمنع الاختراقات، واجهت نموذجاً جديداً من الحرب الدقيقة. ما وضع المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أمام معضلة أمنية مفتوحة، يمكن استغلالها عند أي مواجهة.
الكاتب: غرفة التحرير