منذ تأسيس قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) عام 1978، شكلت هذه البعثة أحد أهم أدوات الأمم المتحدة لحفظ الأمن في الجنوب اللبناني بعد الاجتياح الإسرائيلي، بهدف مراقبة الانسحاب الكامل للعدو واستعادة سلطة الدولة اللبنانية. وقد أكدت قرارات مجلس الأمن، ولا سيما القرار 1701 الصادر عام 2006، على مبادئ ثلاثة تحكم عملها: الحياد التام، احترام سيادة لبنان، والالتزام بحدود التفويض دون تدخل في الشؤون الداخلية.
غير أنّ السنوات الأخيرة كشفت عن انحراف متزايد في أداء الكتيبة الفرنسية العاملة ضمن البعثة، إذ تجاوزت مهامها المحددة باتجاه ممارسات ميدانية واستخباراتية تتعارض مع روح القرار الأممي، وتخدم بشكل غير مباشر الأجندة الإسرائيلية والغربية في الجنوب اللبناني.
تجلّت هذه التجاوزات في قيام عناصر الكتيبة بعمليات استطلاع وتصوير لمواقع مدنية وعسكرية خارج نطاق التفويض، وتبادل معلومات استخباراتية مع أطراف أجنبية بذريعة "تأمين القوات"، فضلاً عن تجاهل متكرر للانتهاكات الإسرائيلية اليومية من خروقات جوية وقصف واستفزازات على الحدود. وقد ترافقت هذه الممارسات مع خطاب إعلامي غربي يحمّل "البيئة الجنوبية" أو "حزب الله" مسؤولية التوتر، في محاولة لتبرئة الاحتلال وإعادة توجيه الاتهام نحو الداخل اللبناني.
قانونياً، تُعد هذه الأفعال خرقاً واضحاً لميثاق الأمم المتحدة واتفاقية مركز القوات الموقّعة عام 1995 بين لبنان والأمم المتحدة، والتي تشدد على وجوب تنسيق كل التحركات مع الجيش اللبناني، ومنع أي نشاط استخباراتي أو إعلامي خارج هذا الإطار. كما أن تجاوز الكتيبة الفرنسية لصلاحياتها يُعدّ انتهاكاً لمبدأ السيادة المنصوص عليه في المادة (2/1) من الميثاق، التي تؤكد المساواة المطلقة بين الدول ورفض أي مساس باستقلالها أو صلاحياتها.
وتبرز أهمية اتفاقية مركز القوات في كونها تحدد بوضوح الإطار القانوني للعلاقة بين لبنان وقوات اليونيفيل: من حدود الولاية القضائية، إلى آليات التنسيق والتحرك، إلى مبدأ الامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية أو استخدام الأراضي اللبنانية لأغراض استخباراتية. وعليه، فإن أي خرق لهذه البنود لا يُفقد فقط الكتيبة الفرنسية شرعيتها القانونية، بل يحمّل فرنسا بصفتها الدولة المرسِلة المسؤولية الدولية عن أفعال قواتها، وفقاً لمبادئ القانون الدولي المتعلقة بالأفعال غير المشروعة.
كما يمكن النظر إلى هذا السلوك على أنه شكل من أشكال "التواطؤ غير المباشر" مع جرائم الحرب التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في لبنان وغزة، خاصة حين تُستخدم التقارير والتغطيات الإعلامية الصادرة عن البعثة لتبرير العدوان أو التغطية عليه. ويُعتبر ذلك مخالفة لمبدأ الحياد الأممي وللمادة (16) من مشروع مواد مسؤولية الدول، التي تحمّل الدولة المساعدة في ارتكاب انتهاكات جسيمة المسؤولية القانونية.
سياسياً، يعكس هذا الانحراف الفرنسي تحوّلاً أوسع في توجهات باريس في الشرق الأوسط، إذ باتت تنخرط بشكل أوضح في المحور الغربي – الإسرائيلي، مستغلة الغطاء الأممي لتثبيت وجود عسكري مراقِب في الجنوب اللبناني، ومتابعة البيئة الاستراتيجية المحيطة بالمقاومة. وتُترجم هذه السياسة في ازدواجية الخطاب الفرنسي: فهي تدّعي دعم استقرار لبنان، بينما تساهم عملياً في خرق توازن الردع القائم لصالح العدو.
هذا السلوك لا يقوّض فقط مصداقية فرنسا كدولة دائمة العضوية في مجلس الأمن، بل يهدد الثقة الشعبية والرسمية ببعثة اليونيفيل ككل. ومع تصاعد الشكوك في نوايا الكتيبة الفرنسية، يُطرح احتمال أن يطالب لبنان بإعادة النظر في التفويض الأممي أو تقليص مهامها، خاصة إذا استمرت في ممارسة أدوار استخباراتية أو سياسية تتجاوز طبيعة بعثات حفظ السلام.
أما على المستوى الإقليمي، فإن استمرار هذه الانحرافات يعمّق الانقسام داخل الأمم المتحدة بشأن حياد قواتها العاملة في مناطق النزاع، ويمنح الاحتلال غطاءً دولياً لمواصلة انتهاكاته. كما يهدد الأمن الإنساني في الجنوب اللبناني عبر تحويل القوة الأممية من عنصر استقرار إلى عامل توتر، ويمنح العدو فرصة لاستخدام "الواجهة الأممية" لتبرير عدوانه تحت شعار مكافحة التهديدات.
من هنا، لا يمكن النظر إلى ما يجري على أنه تجاوز ميداني عابر، بل هو انحراف ممنهج يخدم أهدافاً سياسية واضحة، في ظل صمت أممي يرقى إلى مستوى التواطؤ. فالسكوت عن هذه الممارسات يعكس خضوع المنظمة الدولية لضغوط القوى الكبرى، ويُضعف من شرعية دورها كضامن للسلام وراعي للقانون الدولي.
إنّ واجب الدولة اللبنانية اليوم هو استخدام أدواتها القانونية والدبلوماسية للمطالبة بمحاسبة الكتيبة الفرنسية ورفع شكوى رسمية إلى مجلس الأمن استناداً إلى انتهاك السيادة ومخالفة اتفاقية مركز القوات. كما يمكن للبنان أن يطالب بتعديل التفويض بما يضمن خضوع كل التحركات لإشراف مباشر من الجيش اللبناني.
ختاماً، إن بعثة حفظ السلام التي تفقد حيادها تفقد شرعيتها. وما لم تُصحح فرنسا والأمم المتحدة هذا المسار، فإن وجود الكتيبة الفرنسية في الجنوب سيبقى محل شك ورفض، لأنه لا يعكس مهمة حفظ السلام، بل يكرّس واقعاً جديداً من المراقبة والتواطؤ على حساب سيادة لبنان وعدالة قضيته.
الكاتب: غرفة التحرير