في الإعلان عن تكليف نحو مئتي عنصر أميركي بمراقبة تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، تبدو الولايات المتحدة متميكة إلى حد بعيد بمعادلة قديمة اختبرتها في ساحات مختلفة: حضور عسكري مضبوط بدل الانخراط مباشر. في الواقع، يمكن اعتبار هذه المعادلة كنموذج مصغّر عن حدود القوة الأميركية في الشرق الأوسط، وعن الأسباب التي تجعل أي انتشار عسكري واسع خياراً مكلِفاً سياسياً واستراتيجياً وأمنياً لواشنطن، حتى في ظل إدارة تتبنّى خطاباً تدخّلياً.
أول ما يقيّد واشنطن هو عامل الداخل الأميركي. المزاج الشعبي بعد عقدين من التجربة العراقية والأفغانية لا يمنح أي تفويض مفتوح لانتشار ميداني كبير، ولو تحت عنوان "مراقبة" أو "حفظ استقرار". الكونغرس نفسه، بشقّيه الجمهوري والديموقراطي، صار أقل استعداداً لتمويل أو تغطية عمليات برية طويلة أو واسعة في بيئة مفتوحة الاحتمالات. ما كان ممكناً في مطلع الألفية لم يعد متاحاً اليوم، لا تشريعياً ولا انتخابياً، خاصة على أبواب استحقاق سياسي داخلي يمكن لأي خسارة بشرية أو أزمة ميدانية أن تستثمر فيه ضد الإدارة الحالية.
الحضور على الأرض، هو الآخر، لم يعد مضمونا أمنياً. أي تموضع عسكري أميركي في محيط غزة أو داخل فلسطين المحتلة يعرّض الأفراد لاحتمالات استهداف مباشر من أطراف لا تعترف بشرعية الدور الأميركي، سواء كانت مجموعات مقاومة فلسطينية أو فاعلين إقليميين يتعاملون مع واشنطن كشريك في الاحتلال أو كطرف ضامن لتفوق تل أبيب. تجربة قاعدة عين الأسد في العراق، والضربات المحدودة ضد مواقع أميركية في سوريا كما في قطر، كلها نماذج على أن مجرد الوجود لم يعد يشكل ردعاً وازناً، بل قد يتحول إلى عبء عملياتي.
تدرك واشنطن تدرك أن أي نشر مكثف لقواتها يُقرأ إقليمياً على أنه وصاية سياسية أو انحياز مباشر في إدارة التوازنات. دول عدة تنظر إلى أي تمركز عسكري أميركي قرب غزة أو لبنان أو البحر الأحمر بوصفه جزءاً من منظومة احتواء إقليمي، ما يفتح الباب أمام توترات إضافية أو تحرّك مضاد. في المقابل، عواصم عربية حليفة لواشنطن لا تريد أن تظهر شريكة في إعادة إنتاج حماية عسكرية مباشرة لكيان الاحتلال، خصوصاً وسط رأي عام ضاغط بعد حرب غزة.
في حين أن تجربة "المهمة المحدودة" تحضر بقوة في الحسابات. تاريخياً، كثير من التدخلات الأميركية بدأ بمهام مراقبة أو دعم لوجستي أو حماية منشآت، ثم تحوّل تدريجياً إلى تورّط ميداني تدريجي. واشنطن لا تريد فتح هذا الباب مجدداً، ولا منح إسرائيل فرصة لطلب توسّع دوري في الدعم العملاني بحجة مراقبة أو ضمان تنفيذ الاتفاقات. لذا يأتي الانتشار الحالي بصيغة رمزية، من داخل مواقع القيادة الوسطى، وليس عبر إدخال قوات جديدة.
الإطار القانوني يفرض قيوداً عملية أيضاً. إرسال قوات إلى "ساحة نشطة أو إلى بيئة نزاع" يحتاج إلى سند تشريعي ضمن قوانين مكافحة الإرهاب أو حماية المصالح الأميركية. الإدارة لا تريد الدخول في امتحان تشريعي معقد، ولا اختبار جدل حول التفويض الحربي في الكونغرس. لذلك يُقدَّم الانتشار على أنه إعادة تموضع محدود لقوة موجودة أصلاً تحت مظلة سنتكوم.
تراهن واشنطن على تقاسم الأعباء لتخفيف الانكشاف السياسي. مشاركة مصر وقطر وتركيا والإمارات في ترتيبات المراقبة تمنح القرار الأميركي غطاءً دولياً وإقليمياً، وتمنع تحميلها وحدها تبعات أي خلل أو صدام. كما أن إنشاء مركز تنسيق مدني-عسكري في الكيان، بمشاركة متعددة الأطراف، يسمح للولايات المتحدة بلعب دور مراقب ومشرف، لا طرف ميداني مباشر.
هذا التحوّل في العقيدة العسكرية الأميركية بات قائماً على إدارة الأزمات عن بعد، والاعتماد على الشركاء المحليين، وتوظيف الضغط السياسي والدبلوماسي بدل الانتشار العسكري الميداني. الانتقال من هيمنة ميدانية إلى تموضع محدود يبرر الاكتفاء بقوة محدودة العدد والمهام، خصوصاً في ظل أولوية واشنطن الاستراتيجية في آسيا والمحيط الهادئ، وليس في غزة أو الضفة أو جنوب لبنان.
بالتالي، يصبح قرار إرسال 200 عنصر أقرب إلى تظهير لمعادلة جديدة لا إلى منعطف عسكري. هؤلاء ليسوا قوة تدخل ولا قوة ردع، بل عنوان لوجود سياسي مراقَب يحمي واشنطن سياسياً ويعطيها مادة تسويقية لحضورها الفعلي، من دون أن يورّطها في أي صدام. المهمة مُسنَدة إلى القيادة الوسطى التي تنتشر أصلاً في المنطقة منذ عقود، لكن من دون انتقال فعلي إلى ساحة مواجهة أو احتكاك مع أطراف النزاع.
ما يظهر من السلوك الأميركي أن سقف التدخل لن يرتفع كثيراً، حتى لو تعثّر تنفيذ الاتفاق أو تجددت المواجهات. فالولايات المتحدة باتت تحسب خطواتها بالحد الأدنى من الحضور وبالحد الأقصى من الضبط. أي انزلاق نحو الانتشار الواسع سيعيد فتح ملفات لم تغلق بعد، من الحرب على الإرهاب إلى فشل إعادة الإعمار، ومن التكلفة الاقتصادية إلى الانشقاق السياسي الداخلي.
يمكن القول إن واشنطن تحاول الإمساك بالملف الفلسطيني - الإسرائيلي بأدوات غير صدامية، مستندة إلى شبكة من الشركاء الإقليميين وإلى نفوذ تفاوضي لا إلى تموضع عسكري. وهي تدرك أن أي وجود ميداني كبير في محيط كيان الاحتلال سيستفز خصوماً ويقلق حلفاء ويستهلك رأس المال السياسي للإدارة. لذلك تكتفي بما يكفي لمنع الفراغ، لا بما يفتح باب العودة العسكرية إلى المنطقة.