لقد شهد فجر القرن الحادي والعشرين تحولًا جذريًا في طبيعة الحروب، حيث لم تعد القوة العسكرية تُقاس فقط بحجم الجيوش وعتادها التقليدي، بل بقدرتها على دمج التقنيات الناشئة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي، في عقيدتها العملياتية. وفي هذا السياق، برز الكيان المؤقت كقوة رائدة عالميًا، ليس فقط في تطوير هذه التقنيات، بل في تطبيقها بشكل واسع ومكثف في ساحات القتال الحقيقية. لقد تحولت ساحات المعارك في الشرق الأوسط إلى مختبرات حية لاختبار وتطوير أجيال جديدة من الأسلحة والمنظومات الذكية، التي أعادت تعريف مفاهيم السرعة والدقة والفتك في العمليات العسكرية.
وصف جيش العدو حربه على غزة في عام 2021 بأنها "أول حرب ذكاء اصطناعي في العالم"، لكن هذا لم يكن سوى مقدمة لما شهده العالم لاحقًا. فمنذ السابع من أكتوبر 2023، دخل الصراع من أجل فسطين حقبة جديدة، أصبحت فيها الخوارزميات لاعبًا أساسيًا في اتخاذ قرارات الحياة والموت، وتحديد الأهداف، وتنفيذ الهجمات على نطاق غير مسبوق. لقد تحولت عملية الاستهداف من مهمة دقيقة يقوم بها محللون بشريون إلى عملية صناعية ضخمة، أو ما وصفه ضباط استخبارات صهاينة بـ "مصنع اغتيالات جماعية"، حيث أصبحت "الكمية" هي المقياس الأساسي بدلًا من "الجودة".
يهدف هذا البحث الشامل، والمستند حصريًا إلى النصوص والمعلومات المرفقة، إلى تفكيك وتحليل الاستخدام العسكري الصهيوني للذكاء الاصطناعي عبر ثلاث جبهات حربية محورية:
- حرب غزة (منذ 7 أكتوبر 2023): حيث تمّ استخدام الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع لتوليد عشرات الآلاف من الأهداف، مما أدّى إلى دمار هائل وخسائر بشرية فادحة، وكشف عن الجوانب الأخلاقية والقانونية الأكثر إثارة للجدل لهذه التقنيات.
- حرب لبنان (منذ 8 أكتوبر 2023): حيث تمّ تكييف استخدام الذكاء الاصطناعي ليتناسب مع طبيعة الصراع المختلفة، مع التركيز على الاستخبارات الدقيقة، وتتبع القادة، وتنفيذ اغتيالات موجهة ضد حزب الله.
- حرب إيران (12 يونيو - 24 يونيو 2025): وهي مواجهة تُظهر ذروة تطوّر الحرب الذكية، حيث لم يقتصر دور الذكاء الاصطناعي على الاستهداف الحركي، بل امتد ليشمل الحرب السيبرانية، والفضاء، والحرب المعرفية والنفسية عبر استخدام تقنيات التزييف العميق (Deepfake).
سيناقش البحث المرفق أدناه بعمق العقيدة العسكرية الصهيونية التي احتضنت هذا التحول التكنولوجي، ويتتبع تطور استخدام الذكاء الاصطناعي منذ بداية القرن، ويقدم شرحًا تفصيليًا لأهم البرامج والمنظومات التي يستخدمها جيش العدو. كما سيسلط الضوء على شبكة الشركاء الأجانب من شركات وحكومات ساهمت في بناء هذه الترسانة الذكية، ويستعرض الأسلحة والمعدات التي تمّ دمج الذكاء الاصطناعي فيها. وأخيرًا، سيقدم البحث نماذج وأمثلة حية من ساحات القتال الثلاث، ويختتم باستشراف مستقبلي لما قد يحمله الغد في عالم تتزايد فيه سيطرة الخوارزميات على قرارات الحرب والسلام.
ملخّص
لم يكن إدماج الذكاء الاصطناعي في جيش الاحتلال مجرد تحديث تقني بل تحوّل جذري في العقيدة العسكرية، حيث انتقل التركيز من الردع والدقة إلى السعي وراء الهيمنة المعلوماتية والقتل الصناعي واسع النطاق. انطلقت هذه الرؤية من خطة "مومنتوم" التي أرست أساس "آلة حرب ذكية" قادرة على تقليص الزمن بين رصد الهدف وتدميره إلى ثوانٍ معدودة. ومع أنظمة مثل "لافندر" و"حبسورا"، تحولت عملية توليد الأهداف من محدودة ودقيقة إلى إنتاج ضخم يركز على الكمّية، مع قبول صريح لهوامش خطأ وأضرار جانبية واسعة.
أصبح العنصر البشري مجرد "ختم مطاطي" أمام سرعة الأنظمة وضغط العمليات، وتوسّع بنك الأهداف ليشمل البنية التحتية المدنية بهدف ممارسة عقاب جماعي. هذا التحول لم يأتِ دفعة واحدة، بل عبر مسار طويل منذ أوائل الألفية، مرورًا بتجارب على "القبة الحديدية" وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في جمع البيانات، وصولًا إلى إعلان حرب 2021 كأول حرب ذكاء اصطناعي. لكن اللحظة المفصلية كانت بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، حين برّر الفشل الاستخباراتي والعسكري الاعتماد الكثيف على الذكاء الاصطناعي كأداة للانتقام والتعويض عن قصور البشر.
يمتلك الجيش اليوم منظومات متكاملة تبدأ بجمع البيانات عبر شبكات المراقبة وأنظمة التعرف على الوجوه، ثم دمجها وتحليلها بخوارزميات تنتج ملفات شخصية وأهدافًا بشرية وهيكلية، وصولًا إلى أنظمة تخطط للهجوم وتحدد توقيته بدقة. هذا التكامل حوّل دورة الاستهداف إلى خط إنتاج آلي للقتل. وتلعب شركات التكنولوجيا الأميركية العملاقة، خصوصًا مايكروسوفت وغوغل وأمازون، دورًا محوريًا في توفير البنية التحتية السحابية والخوارزميات المتقدمة، بينما تُسهم شركات الدفاع المحلية في تحويلها إلى أسلحة "مجرّبة قتاليًا".
وقد ظهر أثر ذلك بوضوح في غزة، حيث تحوّلت الحرب إلى "مصنع اغتيالات جماعية"، وفي لبنان من خلال الاغتيالات الدقيقة والحرب النفسية، وفي إيران عبر نموذج الحرب الذكية متعددة المجالات التي دمجت الهجوم الجوي والسيبراني والتأثير الإعلامي. المستقبل يتجه نحو "الحرب الفائقة" حيث تتقلص أدوار البشر أكثر فأكثر، وتزداد الأتمتة والتكامل عبر المجالات الخمسة للحرب. لكن هذا التصعيد يفتح أبواب مخاطر هائلة: من فقدان السيطرة البشرية وتصعيد غير منضبط، إلى تآكل القانون الدولي وانتشار هذه القدرات إلى جهات غير حكومية. وهكذا تكشف الدراسة أن الذكاء الاصطناعي صار ليس مجرد أداة بيد الاحتلال، بل ركيزة لعقيدة عسكرية جديدة قوامها السرعة، التدمير الشامل، والحرب على الوعي.
لتحميل الدراسة من هنا