منذ قيامها، روّجت الولايات المتحدة الأميركية لنفسها كقوةٍ ضامنةٍ للسلام العالمي، وكدولةٍ تحمل رسالة "إنقاذ العالم" من الاستبداد والفوضى. هذا الخطاب لم يكن طارئاً، بل شكّل على مدى عقود البنية النفسية والسياسية للدعاية الأميركية. فمن "خطة مارشال" بعد الحرب العالمية الثانية، إلى "كامب ديفيد"، مروراً بمؤتمرات مدريد وأوسلو، قدّمت واشنطن نفسها دوماً "كوسيطٍ محايدٍ وفاعلٍ أخلاقي" يسعى لوقف الحروب. غير أنّ الوقائع الميدانية والتاريخية أظهرت أنّ هذا "السلام الأميركي" كان في حقيقته غطاءً لاستدامة السيطرة وبسط النفوذ، أكثر مما كان مشروعاً لإنهاء الحروب.
تاريخٌ من التسويق للحروب تحت شعار السلام
في خمسينيات القرن الماضي، رفع الرئيس دوايت أيزنهاور شعار "السلام من خلال القوة"، فكانت النتيجة حروباً بالوكالة تنفذ في كوريا وجنوب شرق آسيا. ثم جاء جون كينيدي ليؤسس صورة "القيادة الأخلاقية"، فيما كانت وكالة الاستخبارات الأميركية تنفذ عمليات اغتيال وتخريب في أميركا الجنوبية.
ومع ريتشارد نيكسون، استُحدثت دبلوماسية الانفتاح مع الصين، لكنها لم تمنع من غرق أميركا في مستنقع فيتنام. أما جيمي كارتر، الذي صوّر نفسه كـ "مهندس سلام الشرق الأوسط"، فقد رعى اتفاق "كامب ديفيد" الذي مهّد عملياً لتفكيك الجبهة العربية وإخراج دولها من المعادلة وإبعادهم عن قضية فلسطين، فاتحاً الباب أمام مرحلة التطبيع والتفرد بالشعب الفلسطيني وتمادي الاحتلال وتوسعه.
في التسعينيات، جاء بيل كلينتون حاملاً وعود "السلام الشامل"، لكن حروبه في البلقان وقصفه العراق أظهرت أن "السلام الأميركي" لا يعني سوى إعادة ترتيب ساحات النفوذ. ومع جورج بوش الابن، بلغت المفارقة ذروتها حيث اعتلى المنصات بعنوان "نشر الديمقراطية" الذي كان فعلياً عنواناً لغزو العراق وأفغانستان، وتحويل المنطقة إلى حقل تجارب في العنف والفوضى. كذلك هو الحال مع ترامب حالياً وترويجه لدعاية السلام الزائف التي تقوم به الولايات المتحدة، وكما قال الإمام علي الخامنئي: " قال ترامب إنه يريد استخدام القوة لتحقيق السلام؛ لقد كذب. هو والمسؤولون الأمريكيون، والحكومات الأمريكية المتعاقبة، استخدموا القوة لارتكاب المجازر في غزة، ولإشعال الحروب أينما استطاعوا، ولدعم عملائهم. هذا هو استخدامهم للقوة. متى استخدموا القوة لإحلال السلام؟"
أميركا بين فشل الحرب وعجز السلام
تاريخياً، لم تنجح الولايات المتحدة في خوض حربٍ ناجحة ولا في صناعة سلامٍ حقيقي. فهي تملك أضخم آلة عسكرية في العالم، لكنها تفتقر إلى الفهم الثقافي والسياسي للمجتمعات التي تغزوها. فحروبها الطويلة انتهت إلى انسحاباتٍ مذلة كما في فيتنام وأفغانستان، فيما محاولات "السلام" التي قادتها لم تفضِ إلى حلولٍ مستدامة، بل كانت بمثابة صفقات مؤقتة تُعيد إنتاج التوتر. وكما يقول الصحفي روبرت مالي: "كالعراق كما في أفغانستان، تبين أن الولايات المتحدة لا تعرف كيف تخوض حرباً. فقد قتل آلاف الأميركيين ومئات الآلاف من العراقيين والأفغان. وانتهت حرب العراق بتمكين حكومة وميليشيات مدعومة من إيران، فيما انتهت حرب أفغانستان بعودة طالبان إلى الحكم بعد انسحاب أميركي مذل".
وحين تعجز واشنطن عن الانتصار في الميدان ويستنزفها تمويل الحروب، تلجأ إلى خطاب السلام كغطاءٍ للانسحاب أو كخطةٍ لتجميل صورتها. السلام هنا يكمن دوره في أن يكون وسيلةً للخداع. لهذا، دائماً ما نرى الإدارات الأميركية تتحدث عن "وقف إطلاق النار" و"الحوار".. في الوقت الذي تواصل فيه تسليح العدو وتمويل جرائمه.
ترامب وفضيحة السلام المزيّف
مع عودة دونالد ترامب إلى المشهد، تهاوت الأقنعة بالكامل. لم تعد واشنطن تتحدث عن "السلام العادل" بل عن "سلام المصالح"، ووقّعت اتفاقيات تطبيع بين أنظمةٍ عربية وكيانٍ يواصل القتل والاستيطان. في عهد ترامب الجديد، تضاعف دعم "إسرائيل" عسكرياً وسياسياً، وتفاقمت وحشيتها في غزة والضفة ولبنان، فيما ظلّ الخطاب الأميركي يتغنّى بـ "التهدئة" و"الفرص التاريخية للسلام".
أيّ سلامٍ هذا الذي يُقاس بعدد الصواريخ والقنابل؟ وأيّ تسوية تلك التي لا تتجاوز حدود المصالح الإسرائيلية؟ واقع الحال أنّ واشنطن لم تكن يوماً وسيطاً بل طرفاً يدير أي صراع عن بُعد، إذ تشارك في تمويل آلة الحرب وتبريرها، وتغطي جرائمها عبر لغةٍ دبلوماسيةٍ مُنمّقة تخدع بعض الرأي العام بها. وكما قال وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي: "يصعب حقاً أن يُطلق على أحد لقب رئيس السلام وهو يذكي الحروب التي لا تنتهي، ويقف إلى جانب مجرمي الحرب. فالسيد ترامب إمّا أن يكون رئيساً للسلام أو رئيساً للحرب؛ ولا يمكن أن يجمع بينهما في آنٍ واحد".
الكاتب: غرفة التحرير