في حروب الاستعمار الحديثة، حيث تمتلك القوى الغازية التفوق التكنولوجي الكامل، يُعاد تعريف مفهوم "الذكاء" و"المعرفة" من جديد. فبينما تنشغل المنظومات الغربية في تطوير أدوات المراقبة، تتشكل داخل المجتمعات المقهورة أجهزة أكثر تواضعًا في الشكل، لكنها أكثر دقة في الفعل والمعنى. من بين هذه الظواهر النادرة في تاريخ حركات التحرر، برزت "وحدة الظل" التابعة لكتائب عز الدين القسام كأحد أكثر التشكيلات الأمنية غموضًا وفاعلية في العالم العربي، وربما المثال الأبرز على ما يمكن تسميته بـ "العقل المقاوم الموازي" — ذلك الذي يتحدى المنظومة الاستخبارية "الإسرائيلية" بأدوات محلية الطابع، لكنها عالية الكفاءة، ومتجذّرة في وعي المقاومة ككيان سياسي–اجتماعي كامل.
أصل الفكرة: حين يتحوّل الأسر إلى بنية عقلية
ولادة "وحدة الظل" لم تكن حدثًا تقنيًا أو قرارًا عسكريًا فحسب، بل تعبيرًا عن لحظة وعي استراتيجي عميق داخل المقاومة الفلسطينية. عام 2006، حين تمكنت كتائب القسام من أسر الجندي "الإسرائيلي" جلعاد شاليط، واحتفظت به لخمس سنوات دون أن تتمكن أجهزة الاستخبارات "الإسرائيلية" — بكل ترسانتها البشرية والتكنولوجية — من تحديد موقعه، وُلدت فكرة جديدة: أن الأسر يمكن أن يكون مدرسةً في الأمن، وأن الصمت يمكن أن يكون سلاحًا أشدّ فتكًا من الصواريخ.
من رحم تلك التجربة، نشأت "وحدة الظل"، ليس كجهاز حراسة تقليدي، بل كبنية فكرية كاملة تُعنى بإدارة المعلومة، وإعادة إنتاج المفهوم المقاوم للأمن. لم تعد المسألة مرتبطة فقط بحماية الأسرى "الإسرائيليين"، بل بإعادة تعريف العلاقة بين القوة والمعرفة: كيف تحجب، متى تُفصح، وكيف توظّف السرّ لصناعة الردع.
السرّ كفلسفة في المقاومة
في السياق "الإسرائيلي–الفلسطيني"، السرّ ليس مجرد تكتيك، بل هو فلسفة وجودية. "إسرائيل" بُنيت على الاستخبارات، وعلى السيطرة عبر المعلومة: من "الشاباك" و"الموساد" إلى وحدة 8200 المتخصصة في التجسس الإلكتروني. في المقابل، تدرك المقاومة أن مواجهة هذا النوع من العدو لا تتم عبر التماثل، بل عبر نقض المنهج ذاته: مقاومة المعرفة بالجهل المتعمّد، ومواجهة الكاميرا بالظل، والمعلومة بالغياب.
من هنا، جاء اسم الوحدة: "الظل". فالظل ليس انعدامًا للنور، بل توازنه الخفيّ. إنهم يعملون في المساحة التي لا يمكن للعدو رؤيتها أو قياسها، حيث تُلغى معادلة التفوق التكنولوجي. هؤلاء ليسوا مجرد مقاتلين، بل تجسيد عملي لفكرة أن المقاومة لا تنتصر حين تقاتل فقط، بل حين تجعل العدو عاجزًا عن الفهم.
من شاليط إلى طوفان الأقصى: مدرسة في التمويه والمناورة
حين اندلعت معركة طوفان الأقصى في أكتوبر 2023، كان المشهد مختلفًا. فجأة وجد "الجيش الإسرائيلي" نفسه أمام أكثر من مئتي أسير، اختفوا في مساحة جغرافية محاصرة ومراقبة بالكامل. لم تكن تلك مجرد عملية إخفاء، بل عملية إدارة معقّدة لشبكة من المعلومات، والتحركات، والعلاقات اللوجستية التي شملت الأنفاق والمنازل المدنية والمركبات المموّهة.
في عالم الحرب، أن تُخفي إنسانًا واحدًا عن أجهزة التجسس الحديثة هو تحدٍ هائل، فكيف إذا كان العدد بالعشرات والمئات؟
وفي واحدة من أكثر عمليات التمويه جرأة وذكاءً خلال الحرب، نفذت وحدة الظل خطة غير مسبوقة لحماية عدد من الأسرى أثناء تقدم قوات الاحتلال في شمال القطاع. فقد نظّمت الوحدة مشهدًا ميدانيًا بدا في ظاهره تظاهرة مناهضة لحركة حماس، فيما كان في جوهره عملية نقلٍ دقيقة للأسرى نحو الجنوب تحت أنظار الطيران "الإسرائيلي" نفسه.
حمل عناصر الوحدة الأسرى على الأكتاف وجعلوهم في مقدمة "المتظاهرين"، فيما أُعدّت الشعارات والهتافات لتبدو كما لو أنها احتجاجٌ شعبي على حماس. ووفق شهادات لاحقة لبعض الأسرى "الإسرائيليين"، فقد شاركوا في هذا التمويه بعد أن لقّنهم عناصر الوحدة ما يقولونه بالعربية.
أما المفارقة الكبرى، فكانت أن طائرات الاستطلاع "الإسرائيلية" كانت تحوم فوق المشهد وتوفّر غطاءً جوياً اعتقادًا منها بأنها تحمي محتجين ضد المقاومة، دون أن تدرك أن من كانت تحميهم هم في الواقع "أشباح القسام" الذين نقلوا الأسرى بأمان إلى الجنوب.
لقد تحولت وحدة الظل في تلك اللحظة من جهاز أمني إلى عقل عملياتي متكامل، يجمع بين التكتيك العسكري والدراسة النفسية والاجتماعية للعدو. كانت تدرك كيف يفكر "الإسرائيلي"، وكيف يبحث، ومتى ييأس.
ما فعلته "الظل" خلال الحرب كان إعادة توزيع الخوف: من أن يخاف الفلسطيني على نفسه، إلى أن يخاف "الإسرائيلي" من المجهول. من أن يبحث الفلسطيني عن أمانه، إلى أن يبحث الإسرائيلي عن مفقودٍ لا يعرف أين هو، ولا حتى إن كان حيًا.
العقل الأمني في مواجهة "الدولة الأمنية"
تعمل إسرائيل كـ"دولة استخبارات"، لا كدولة سياسية. هذا يعني أن وجودها قائم على السيطرة المطلقة على المعلومات، وعلى محو المفاجأة من معادلة الحرب. في المقابل، استطاعت المقاومة، عبر تشكيلات مثل "وحدة الظل"، أن تعيد إدخال عنصر المفاجأة في الصراع، وهو أخطر ما يمكن أن تواجهه أي منظومة أمنية.
الوحدة، في جوهرها، ليست مجرد جهاز داخل كتائب القسام، بل عقلٌ جمعيٌ جديد للمقاومة، يُعيد صياغة العلاقة بين الأمن والسياسة. هي المؤسسة التي تفكّر بعيون العدو، لكنها تتحرك بروح مجتمع يعرف أن كل سرّ يُكشف هو حياة تُزهق. لذلك فإن تدريب عناصرها لا يركّز على القوة الجسدية فحسب، بل على الانضباط النفسي، والقدرة على الصمت، والتحكم بالانفعال — وهي صفات نادرة في بيئات الحرب، لكنها أساسية في هندسة الصمود الطويل.
"الظل" كرمز ثقافي وسياسي
عبر التاريخ، كانت كل حركة تحرر حقيقية تنتج مؤسسات ظلٍّ تحافظ على سرّها الداخلي: من جبهة التحرير الجزائرية إلى الفيتكونغ في فيتنام، ثم حزب الله في لبنان. لكن وحدة الظل في غزة تمثل تطورًا نوعيًا لهذا النموذج. فهي ليست مجرد وحدة أمنية، بل أرشيف حيّ للمعرفة المضادة: تعرف العدو أكثر مما يعرف نفسه، وتُخفي ما يجب أن يُخفى لا لضعف، بل لحكمة.
في ثقافة المقاومة، السرّ ليس نقصًا في الشفافية، بل ضرورة للبقاء. لذلك تحوّل عناصر الظل إلى ما يشبه المؤسسة الميتافيزيقية للمقاومة: لا أسماء، لا وجوه، لا مقابلات، فقط حضور يُقاس بنتائجه. حين يختفي الأسير، وحين تعجز الأقمار الصناعية عن التقاط أثر، فهناك ظلٌّ يتحرك بصمت.
بين المعرفة والردع
لقد وُلدت "وحدة الظل" من رحم الأسر، لكنها لم تبقَ حبيسة وظيفتها الأولى. مع مرور السنوات، تحولت إلى عقل المقاومة الأمني، وإلى مختبرٍ فكري لصياغة مفهوم جديد للردع. ففي مواجهة جيشٍ يملك كل أدوات المعرفة، اختارت المقاومة أن تمتلك ما هو أندر: القدرة على الإخفاء، والتحكم بالمعنى، وإنتاج الصمت كقوة.
في النهاية، ليست "وحدة الظل" مجرد فصلٍ من فصول الحرب على غزة، بل فصل من تاريخ التحول المعرفي في "الصراع الفلسطيني الإسرائيلي": حين يصبح اللا مرئي أقوى من الصورة، وحين يُهزم الموساد لا بالصواريخ، بل بالعجز عن الرؤية.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]