الأربعاء 30 تموز , 2025 02:48

المتغيّرات في العقيدة القتالية الإسرائيلية قبل وبعد معركة طوفان الأقصى

جنود الجيش الإسرائيلي

كلّ جيوش العالم أو المنظّمات العصاباتيّة تبني لنفسها منظومة تؤمن بها وترسّخها وتجعلها القاعدة الّتي ينتقل منها إلى التّخطيط والعمل على أساسها، يمكن اعتبارها أساس التّخطيط العسكري، وشكّلت معركة طوفان الأقصى (7 أكتوبر 2023) نقطة تحوّل استراتيجية ومفصليّة في قراءة تاريخ العقيدة القتاليّة عند جيش الاحتلال الإسرائيلي والمنظومة الأمنيّة ومنظومة القيادة والسّيطرة، وكنت قد ذكرت في كتاب (معركة طوفان الأقصى...) المتغيّرات التي حدثت بعد لجنة فينوغراد بالتفاصيل والجزئيّات المتعلّقة بالعقيدة القتاليّة وبنودها التّكتيكيّة والإستراتيجيّة قبل حرب تمّوز وبعدها، وأستعرض هنا المتغيّرات الحادثة، فهذه المعركة مثّلت انهيارًا دراماتيكيًا في المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية السّائدة، ما أجبر قيادة الجيش والمؤسسة السياسية على إعادة تقييم جوهر العقيدة القتالية. لقد تجاوزت هذه التغيّرات الطابع الميداني التكتيكي، لتطال المفاهيم البنيوية للعقيدة، بدءًا من الاعتماد على التفوق الاستخباراتي، وصولًا إلى مفاهيم الردع والحسم والتكنولوجيا. في هذه الورقة، نرصد طبيعة العقيدة القتالية الإسرائيلية قبل المعركة، ثم نحلّل المتغيرات التي فرضتها نتائج طوفان الأقصى على المستوى العسكري والإستراتيجي.

أولاً: العقيدة القتالية الإسرائيلية قبل معركة طوفان الأقصى

-1-التفوق الاستخباراتي والضربات الاستباقية

بُنيت العقيدة الإسرائيلية لعقود على أساس أن الردع يبدأ بالمعلومة، فقد اعتمدت تل أبيب على أذرعها الاستخباراتية الثلاثة – "أمان" (العسكرية)، "الشاباك" (الداخلية)، و"الموساد" (الخارجية) – لضبط بيئة التهديدات ومنعها قبل تشكّلها. كان الاعتقاد السائد أن أي عملية كبيرة لا بد أن تترك أثرًا استخباريًا يمكن رصده وإحباطه، وخصوصًا في قطاع محاصر كالقطاع الغزّي.

-2- الهيمنة التكنولوجية والدفاعات الذكية

أولت إسرائيل ثقة شبه مطلقة لمنظوماتها الدفاعية، لا سيما القبة الحديدية ومقلاع داوود في مقابل التّهديد الصاروخي متوسط وقصير المدى، والحواجز الذكية، وأنظمة الرصد الإلكتروني والذكاء الاصطناعي. افترضت المؤسسة العسكرية أن هذه الأنظمة كافية لردع أي خرق مفاجئ أو منع تسلل نوعي، خصوصًا من غزة أو الجنوب اللبناني، مما أدى إلى تراجع الاعتماد على الدفاع الأرضي التقليدي (العامل الفيزيائي).

-3- الاعتماد على الردع وتجنّب الحروب الطويلة

كانت إسرائيل تسعى إلى حسم الصراعات عبر الردع الوقائي، أي عبر توجيه ضربات مدمّرة تؤسس لمعادلة ردعية تمنع التصعيد. هذا ما جعلها تميل إلى الحروب القصيرة، سواء في (حروب غزة) أو في مواجهة حزب الله، وتتجنّب التورّط في عمليات برية مستنزِفة.

-4- إنكار احتمالية تهديد وجودي من غزة

اعتقدت القيادة الإسرائيلية أن فصائل المقاومة في غزة عاجزة عن شن عمليات نوعية منظمة، بسبب الحصار، والانكشاف الاستخباري، وضعف التسليح. وظنّت أن حماس تسعى فقط للحفاظ على حكمها المحلي وليس للمبادرة بهجوم استراتيجي (ولو أنّ بعض التّقارير المسرّبة كشفت عن معرفة جهاز الشّاباك بما يدور داخل القطاع، وأنّ الهجوم المركّب الّذي حدث كان مرصوداً خصوصاً بعد أكثر من 20 مناورة حاكت سيناريو العمليّة في الكثير من الجغرافيا المتنوعة داخل القطاع، إلّا أنّ الثّابت إعلاميّاً ما ذكرته في الأعلى، ودونه بحاجة إلى دليل).

ثانيًا: التغيّرات في العقيدة بعد معركة "طوفان الأقصى"

-1- انهيار فرضيّة التفوق الاستخباراتي

أحدثت مفاجأة الهجوم صدمة استخباراتية غير مسبوقة، أظهرت فشلًا مركبًا في القدرة على التنبؤ والإنذار المبكر، ما دفع نحو مراجعة بنيوية لأجهزة الرصد، وتوسيع آليات التجنيد، وتكثيف الرصد السيبراني والجوي والميداني. إن انكشاف عمق الأجهزة – خصوصًا فيما عُرف بصدمة "السبات الاستخباري" – أعاد الاعتبار لمسألة المرونة البشرية في فهم سلوك الخصم، بعيدًا عن الغرور التكنولوجي.

-2- إعادة هندسة الدفاعات الحدوديّة

لم تصمد الحواجز الذكية ولا الجدار الأمني أمام هجوم المقاومة، فاندفعت وحدات "النخبة" الفلسطينية إلى العمق في ظرف دقائق. أدى ذلك إلى إعادة هيكلة التحصينات حول القطاع، وتوسيع دور الوحدات البرية، وإعادة تموضع وحدات مشاة على طول الحدود، بعد أن كان وجودها رمزيًا.

-3- تحوّل في مفهوم الردع والحسم

بعد طوفان الأقصى، لم يعد الردع وحده كافيًا. تحوّلت إسرائيل إلى محاولة فرض نموذج الحسم الكامل عبر اجتياح بري واسع، كما ظهر في "عملية السيوف الحديدية" (28 أكتوبر 2023)، مما يناقض العقيدة السابقة التي كانت تتفادى التورط البري. هذا التغيّر يعكس فقدان الثقة بجدوى الضربات الجوية وحدها، ومحاولة تحقيق نصر يُقنع الداخل والخارج باستعادة الهيبة.

-4- التركيز على حروب المدن والأنفاق

واجهت القوات الإسرائيلية تحديًا مركبًا في بيئة قتالية حضرية تحت الأرض وفوقها، اضطرّت القيادة العسكرية إلى تفعيل وحدات متخصصة بحرب الأنفاق، وإدخال تغييرات في التدريبات القتالية والمناورات، بعد أن تبين أن الاستعداد المسبق لحرب المدن كان دون المستوى.

-5- مراجعة عقيدة الأمن الداخلي

أُجبرت إسرائيل على تسليح مستوطنيها وتدريبهم ضمن ما بات يُعرف بـ"الجيش الرديف"، بعد أن تعرّضت مستوطنات كاملة للاقتحام والسيطرة المؤقتة، وتوسّعت صلاحيات وحدات الشرطة العسكرية، مع تفعيل سيناريوهات حماية المدن من الداخل، تحسّبًا لأي اختراق في الحروب المقبلة.

-6- إدراك حتميّة الحرب متعددة الجبهات

أصبح من الواضح أن أي تصعيد مع غزة قد يتحوّل إلى حرب إقليمية، عززت إسرائيل جبهتها الشمالية، ووسّعت مناوراتها لسيناريوهات متزامنة مع حزب الله، واحتمالية المقاومات في سوريا، والضفة الغربية، وحتى الجبهة الإيرانية وما تلاها من جبهة اليمن والعراق، لم تعد العقيدة القتالية قائمة على "التفكيك الجبهوي"، بل باتت تستعد لنموذج الحرب المركّبة والمعقدة، بما في ذلك الجبهة الداخلية.

-7- إعادة هيكلة منظومة القيادة والسيطرة  C4I

من أبرز المتغيرات العسكرية "العلمية/المؤسسية" التي طُبّقت بعد المعركة هو إعادة هيكلة منظومة القيادة والسيطرة والاتصال والاستخبارات المعروفة اختصارًا بـ(C4I)   وهي العمود الفقري للعقيدة القتالية الحديثة، وتمسّ عمليًا كل وحدات الجيش من سلاح الجو إلى المناورة البرية والاستخبارات (كنت قد تحدّثت عنها تفصيلاً في كتاب (معركة طوفان الأقصى....).

الخلل الذي انكشف:

قبل الهجوم، كانت العقيدة الإسرائيلية تفترض أن منظومة C4I قادرة على خلق "صورة موحدة للواقع العملياتي" تسمح باتخاذ القرار في الوقت الفعلي، لكن المفاجأة أظهرت ما يلي:

- قصور في الربط بين المعلومات التي كانت متاحة في وحدات ميدانية وأجهزة مركزية (مثل وحدة 8200).

- بطء في اتخاذ القرار بسبب "ثقة مفرطة في التحليل الخوارزمي" بدل التقدير البشري القتالي.

- عزل جزئي بين قيادة المناطق والقيادة العامة (خاصة قيادة المنطقة الجنوبية).

- التغييرات التي نُفّذت أو قُرّرت:

- دمج الأنظمة الاستخباراتية الميدانية والرقمية في إطار موحد لتقليل زمن التفاعل.

- تعزيز وحدات الاتصال الميداني التكتيكي، خصوصًا في سلاح المشاة والمدرعات، لضمان مرونة القيادة في حالة انهيار الاتصالات المركزية.

- نشر "وحدات رد سريع استخباراتي" على مستوى الكتائب (وليس فقط الألوية) لجمع وتقييم المعطيات فورًا ميدانيًا، خصوصًا داخل غزة.

- إدخال تغييرات على العقيدة التدريبية في مدارس القيادة والسيطرة، على أساس سيناريوهات الحرب اللاخطية، وعدم الاعتماد فقط على مركزية القرار.

لماذا يُعد هذا تغيّراً جذريًا؟

لأن العقيدة القتالية الإسرائيلية لطالما افتُخرت بـ"أوتوماتيكية القرار" عبر مراكز القيادة المحوسبة، لكن "طوفان الأقصى" أظهر أن هذه الأوتوماتيكية تُصاب بالشلل أمام مفاجآت غير متوقعة ومركّبة، فاضطرت إسرائيل إلى إعادة الاعتبار للقيادة اللامركزية المرنة ضمن هيكل عملياتها.

خاتمة:

صُنّفت معركة الطوفان كالزلزال العسكري والاستراتيجي في العقيدة القتالية الإسرائيلية، فكشفت المعركة خللاً بنيويًا في الفرضيّات، وفي أدوات الردع والحماية والسيطرة، ودفعت نحو تغييرات عميقة لا تزال قيد التجريب والتقييم. لا يبدو أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية قادرة بعدُ على صياغة عقيدة متماسكة جديدة، لأنّ بنية العقيدة القتاليّة تأتي بعد التّجربة، ولكنها باتت مجبرة على التخلي عن نموذج الردع الساكن، لصالح استراتيجيات أكثر هجومية ومرونة، في ظل تهديدات لم تعد تأتي من جبهة واحدة، بل من طيف واسع من اللاعبين اللامركزيين، وفي بيئات حرب غير تقليدية، لقد بدأت إسرائيل حربًا جديدة من نوع آخر: تثبيت نجاعة وفعاليّة العقيدة القتاليّة الجديدة.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع


الكاتب: أحمد علاء الدين




روزنامة المحور