منذ اندلاع المواجهات على الجبهة اللبنانية عقب معركة طوفان الأقصى، ارتفعت الأصوات في الكيان الداعية إلى إعادة لبنان إلى العصر الحجري، واجتياح الجنوب لإبعاد خطر حزب الله عن الحدود، وقد ترددت في الأوساط العسكرية والسياسية الإسرائيلية شعارات النصر السريع وإقامة منطقة عازلة بعمق عشرات الكيلومترات داخل الأراضي اللبنانية.
لكن ما جرى على الأرض كان عكس ذلك تماماً، لم تستطع إسرائيل تنفيذ أي اجتياح واسع وبقيت تراوح مكانها عند خطوط التماس، بل وجدت نفسها مضطرة للدخول في مسار تفاوضي عبر الأميركيين والأوروبيين للبحث عن ترتيبات تضمن تهدئة الجبهة الشمالية، كل ذلك كان بعد استشهاد الشهيد القائد السيد حسن نصرالله، واغتيالات معظم قيادات حزب الله، السؤال هنا: لماذا لم يجرؤ الكيان على اجتياح الجنوب وهو الذي لم تتردد يوماً في قصف غزة واحتلالها والدخول إلى الأراضي السورية؟
أولا: الردع العسكري لحزب الله
السبب الأبرز يكمن في معادلة الردع التي فرضها حزب الله على مدى عقدين من الزمن، الحزب الذي راكم تجربة قتالية منذ تحرير عام 2000، وأثبت قدرته في حرب تموز 2006، على ضرب العمق الإسرائيلي بالصواريخ، طور ترسانته بشكل هائل خلال السنوات الماضية، التقديرات الإسرائيلية نفسها تتحدث عن أكثر من 150 ألف صاروخ بينها مئات الصواريخ الدقيقة، إضافة إلى طائرات مسيرة هجومية، وقدرات متطورة في الحرب الإلكترونية والمسيّرات الاستطلاعية، وتقرّ بأن أي اجتياح بري للجنوب سيعني تلقائيا انفتاح السماء الإسرائيلية على وابل من الصواريخ، التي لا تستطيع القبة الحديدية ولا مقلاع داوود اعتراضها، هذا الخطر المباشر على المدن والمراكز الاستراتيجية جعل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أكثر حذراً في حساباتها، فبدلاً من عملية حاسمة على الأرض فضلت القيادة الإسرائيلية الاكتفاء بالقصف الجوي، والاغتيالات المحدودة، مع تجنب الانزلاق إلى معركة برية طويلة ومكلفة، مما يدل دلالة قاطعة بأن معادلة الردع التي وضعها حزب الله لاتزال موجودة وبقوة في العقل الإسرائيلي.
ثانيا: هشاشة الجبهة الداخلية الإسرائيلية
العامل الثاني، هو هشاشة الجبهة الداخلية الإسرائيلية، فالمجتمع الإسرائيلي الذي يعيش منذ عام تقريباً تحت تهديد الصواريخ من غزة ولبنان واليمن لم يعد قادراً على تحمل تبعات حرب استنزاف طويلة. التجارب السابقة أثبتت أن حزب الله قادر على تعطيل الموانئ وضرب المطارات وإجبار مئات الآلاف من المستوطنين على النزوح من مستوطناتهم الشمالية، وبالفعل شهدنا منذ الأشهر الأولى لنشوب المواجهة، نزوحا غير مسبوق في المستوطنات القريبة من الحدود، الأمر الذي شكل ضغطاً هائلاً على حكومة العدو الإسرائيلي. هذا الوضع جعل أي قرار باجتياح الجنوب مغامرة محفوفة بالمخاطر، لأن الرد الصاروخي سيضاعف من معاناة الداخل الإسرائيلي، وسيفقد الحكومة القدرة على إدارة المعركة سياسياً، هنا يظهر بوضوح أن حزب الله لم يعد مجرد خطر عسكري على الحدود بل تحول إلى تهديد استراتيجي يطال البنية الاقتصادية والاجتماعية للكيان من الداخل، وهي معادلة ردع حقيقة أمام صانع القرار في جيش الاحتلال الإسرائيلي وضعها وعمدها بالدم حزب الله.
ثالثا: المعادلة الإقليمية حرب ١٢ يوماً
العامل الثالث الذي منع إسرائيل من الاجتياح هو المعادلة الإقليمية، فحزب الله لم يعد يقاتل وحيداً، بل بات جزءاً من محور متماسك يمتد من اليمن إلى العراق وإيران، هذا المحور أظهر خلال العام الماضي قدرة عالية على التنسيق والضغط المتزامن، فاليمن أغلق البحر الأحمر أمام السفن الإسرائيلية والأميركية، والعراق نفذ عمليات نوعية ضد القواعد الأميركية، وإيران بدورها أطلقت عملية الوعد الصادق التي وجهت رسائل حاسمة لإسرائيل وحلفائها.
تدرك "إسرائيل" أن أي مغامرة كبرى في لبنان لن تبقى محصورة هناك، بل ستفتح أبواب جبهات أخرى، وبما أن الجيش الإسرائيلي يواجه أصلاً تحديات هائلة في غزة فإن توسيع المواجهة ليشمل لبنان وربما العراق واليمن وإيران يعني الدخول في حرب إقليمية شاملة، هذا السيناريو وفق الحسابات الأميركية والإسرائيلية قد يقود إلى انهيار اقتصادي واجتماعي داخل الكيان وهو ما تسعى القيادة السياسية لتجنبه وخاصة بعد حرب ١٢ يوماً ضد الجمهورية الإسلامية والتي وضعت قواعد ردع حقيقة أمام الكيان الإسرائيلي وداعميه.
الاتفاق كإلتفاف سياسي
انطلاقاً من هذه العوامل الثلاثة، يمكن قراءة نقاط الاتفاق الأخيرة بين الكيان الإسرائيلي ولبنان كالتفاف سياسي على معادلة الردع فإسرائيل، التي عجزت عن تحقيق أهدافها عسكرياً، وتحاول عبر الضغوط السياسية والوساطات الدولية أن تنتزع مكاسب لم تحصل عليها في الميدان، حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية، وتفكيك البنية التحتية للمقاومة، ومنع الإمدادات العسكرية من إيران. لكن هذا المسار يواجه عقبات كبرى، لأن حزب الله لا ينظر إلى نفسه كفصيل داخلي يمكن نزع سلاحه بقرار حكومي أجوف، بل كجزء من مشروع مقاوم إقليمي يعتبر مواجهة إسرائيل التزاما عقائدياً واستراتيجياً، من هنا فإن أي محاولة لإضعاف الحزب عبر اتفاقات شكلية لن تنجح ما دام ميزان القوى الميداني قائماً.
معادلة الردع مستمرة
المحصلة أن الكيان الإسرائيلي لم يجتاح الجنوب ليس لأنه لا يريد بل لأنه لا تستطيع، ومعادلة الردع التي صاغها حزب الله بدماء شهدائه وقدراته العسكرية مدعومة بظهير شعبي وإقليمي واسع، هي التي منعت الجيش الإسرائيلي من التقدم، بل يمكن القول إن الاتفاق المطروح هو اعتراف غير مباشر من الكيان بفشله العسكري، وسعيه للحصول على ما يمكن عبر التفاوض.
تبقى هنا معادلة الردع هي الضامن الأساسي لمنع الحرب الشاملة، وهي التي فرضت على إسرائيل معادلة جديدة، إما التعايش مع وجود المقاومة على حدودها أو المخاطرة بخسائر لا تحتملها في حال التفكير باجتياح الجنوب، ومن هنا فإن أي قراءة موضوعية للوقائع تظهر أن قوة حزب الله لم تتراجع، بل على العكس هي التي أجبرت الكيان على التراجع خطوة إلى الوراء، والبحث عن مخارج سياسية تحفظ له ماء وجهه أمام جمهوره وحلفائه ولنا في سوريا خير مثال على ذلك.
المصدر: عميد كلية الآداب في جامعة صنعاء
الكاتب: د.عبدالملك محمد عيسى