لم تعد الحروب في عصرنا الحديث تقتصر على ساحات القتال التقليدية أو استخدام القوة العسكرية المباشرة، بل باتت المعركة الرقمية جزءًا أساسيًا من ميدان الصراع. ففي زمن الاتصال الفوري ووسائل التواصل الاجتماعي، برزت الحملات الرقمية كأدوات متقدمة للحرب النفسية والتأثير على الرأي العام، بهدف زعزعة استقرار المجتمعات المستهدفة وتقويض ثقتها بمؤسساتها. وتُظهر التجارب المعاصرة أن الحملات المنظمة عبر الإنترنت يمكن أن توازي في خطورتها الضربات العسكرية، لما تخلقه من انقسام داخلي وارتباك نفسي، ولما تحمله من قدرة على إعادة تشكيل الخطاب العام بما يخدم مصالح الأطراف المنخرطة في الصراع.
من هنا تأتي أهمية دراسة المرفقة أدناه من إصدار معهد الأمن القومي الإسرائيلي، ترجمها موقع الخنادق، في الحديث عن الحملات الرقمية مثل حملة "إسناد"، التي تمثل نموذجًا واضحًا لتدخل أجنبي يستخدم أدوات الفضاء الإلكتروني لإضعاف إسرائيل من الداخل خلال حروبها الأخيرة، بما يسلّط الضوء على طبيعة هذا التهديد وأساليبه، والآليات الممكنة لمواجهته في بيئة مفتوحة يصعب ضبطها.
تشكل حملة "إسناد" نموذجًا بارزًا للحرب الرقمية والتأثير النفسي في زمن الصراعات الحديثة، حيث انتقلت من نشاط دعائي مؤيد للقضية الفلسطينية إلى أداة تدخل أجنبي منظمة تستهدف المجتمع الإسرائيلي مباشرة. بدأت الحملة في ديسمبر 2023 على يد عز الدين دويدار، الناشط المصري المعارض في المنفى والداعم لجماعة الإخوان المسلمين، وقدمت نفسها كحركة شعبية مدنية مستقلة تهدف إلى دعم فلسطين عبر كسر الرقابة الإعلامية والتدوين بلغات متعددة. غير أن مسارها لاحقًا كشف عن أبعاد استراتيجية أوسع، تتجاوز التضامن المدني، لتأخذ شكل عملية تأثير ممنهجة تهدف إلى زعزعة استقرار إسرائيل.
تشير الدراسة إلى أن "إسناد" برزت كلاعب نشط في الفضاء الرقمي مع اندلاع الحرب بين إسرائيل وإيران في يونيو/حزيران 2025، حيث صاغت رسائلها بعناية لإضعاف الروح المعنوية العامة وتقويض الثقة بالمؤسسات الإسرائيلية. وتضيف الدراسة بأنها ركزت حملتها على بث مشاعر اليأس والخوف والانتقاد الحاد للحكومة، مستغلة الانقسامات الداخلية ومناخ الاحتجاجات السياسية في إسرائيل. وقد سعت، من خلال هذه المقاربة، إلى تقويض التماسك الاجتماعي وزرع الشكوك حول قدرة الدولة على حماية مواطنيها وإدارة أزماتها الأمنية. وتعتمد استراتيجية "إسناد" التشغيلية على عدة محاور أساسية. أولها انتحال شخصيات إسرائيلية عبر إنشاء حسابات وهمية بأسماء وصور وسير ذاتية تبدو موثوقة، مما يجعل الرسائل أقرب إلى الواقع وأكثر تأثيرًا في المتلقي.
ثانيًا، تعتمد الحملة على تكتيك "إغراق الخطاب"، أي نشر آلاف الرسائل المتكررة يوميًا على منصات التواصل الاجتماعي، خصوصًا "إكس" وفيسبوك وتيك توك، بغرض التأثير في الإدراك العام عبر التكرار والانتشار الواسع. ويركز هذا النشاط على حسابات ذات جماهيرية عالية مثل صحفيين وقادة احتجاجات وسياسيين.
أما ثالثًا، فتقوم الحملة بدفع الخطاب السياسي والاجتماعي نحو التطرف. إذ يتبنى بعض النشطاء شخصيات المتظاهرين المناهضين للحكومة ويعملون على تصعيد خطابهم ليشمل الدعوات لرفض الخدمة العسكرية، أو حتى التلويح بالعنف ضد القيادة السياسية. في حالات أخرى، لجأت الحملة إلى تبني خطاب يميني لتوسيع نطاق تأثيرها، مما يعكس مرونة تكتيكية في استهداف أطراف متعارضة داخل المجتمع الإسرائيلي.
من الناحية التنظيمية، تقوم "إسناد" على هيكل يجمع بين منسقين أساسيين وخبراء داعمين وآلاف المتطوعين من دول مثل تركيا ومصر. يحصل هؤلاء المتطوعون على تدريب سريع وتعليمات دقيقة حول كيفية إنشاء الحسابات المزيفة ونشر المحتوى، مع اعتماد آليات متابعة وتقييم لقياس تأثير الرسائل وتحسينها باستمرار. كما تستخدم الحملة الذكاء الاصطناعي لتوليد محتوى متنوع يصعب كشفه عبر الأنماط النصية المتكررة، وتتبنى نظامًا لامركزيًا يقلل من خطر التعقب والإغلاق.
الأنشطة التي نفذتها "إسناد" خلال حرب يونيو 2025 مع إيران تعكس انتقالها إلى مستوى جديد من العمليات النفسية. فقد ركزت على رسائل التشكيك بأداء الحكومة ورئيس الوزراء، وتصوير الوضع الأمني ككارثة محققة، ونشر روايات عن إهمال احتياجات المواطنين. كما أبرزت مظاهر اليأس مثل الصدمات النفسية للأطفال، وانعدام الأمن الشخصي، وتوقع دمار شامل نتيجة القصف الإيراني. بالتوازي، عملت على تقويض الثقة بوسائل الإعلام والهيئات الرسمية، متهمةً إياها بإخفاء الحقائق والتلاعب بالمعلومات.
لم تقتصر أهداف "إسناد" على الداخل الإسرائيلي، بل امتدت إلى الساحة الإقليمية، خاصة مصر والأردن، حيث حرّضت ضد الأنظمة السياسية بدعوى أنها متواطئة مع إسرائيل. وخصّت النظام المصري بالهجوم، مصورة الرئيس عبد الفتاح السيسي كحارس شخصي لنتنياهو، وداعية الشعب المصري للاحتجاج على سياسات بلاده تجاه غزة.
توصي الدراسة بضرورة الاعتراف بالتدخل الأجنبي الرقمي كتهديد استراتيجي، وإنشاء هيئات متخصصة لمراقبة الحرب المعرفية، وإصدار أطر قانونية تفرض الشفافية على النشاط السياسي عبر الإنترنت، مع تعزيز الشراكة بين الحكومة والمجتمع المدني وشركات التكنولوجيا. كما تشدد على دور التعليم الرقمي ومحو الأمية الإعلامية كوسيلة لتمكين الجمهور من التمييز بين المحتوى الأصيل والمحتوى الخبيث.
بهذا، تقدم حملة "إسناد" مثالًا واضحًا على تطور حروب المعلومات في القرن الحادي والعشرين، وكيف يمكن لأدوات التأثير النفسي عبر الإنترنت أن تتحول إلى سلاح استراتيجي يسعى إلى زعزعة استقرار المجتمعات من الداخل.
لتحميل الدراسة من هنا
المصدر: معهد دراسات الأمن القومي
الكاتب: David Siman-Tov