لقد شكلت البيئة الحاضنة للمقاومة منذ نشأتها في الثمانينات حجر الزاوية الذي مكنها من الصمود وتحقيق انتصارات نوعية ضد الاحتلال. فقد اعتمدت هذه البيئة على مبادئ أساسية من التحفظ والكتمان، ما وفر للمقاومين حماية فعّالة وساعدهم على تنظيم عملياتهم العسكرية بدقة وفعالية. في تلك المرحلة، كانت المقاومة تتمكن من استهداف مواقع الاحتلال في الجنوب بدقة كبيرة، مستغلة ضعف العدو في التعرف على تحركاتها وتخطيطاته. هذا التكتم لم يقتصر على المقاومين فحسب، بل شمل أيضاً البيئة الحاضنة التي وفرت لهم الغطاء الاجتماعي والنفسي، وحافظت على سرية تحركاتهم وهوياتهم، ما أعمى العدو وأضاع عليه القدرة على الردع المبكر.
نجحت المقاومة في تنفيذ سلسلة من العمليات النوعية بدءاً من منتصف الثمانينات، وصولاً إلى التحرير الكبير عام 2000، حيث اضطر الاحتلال للانسحاب من القرى الجنوبية بعد تكبده خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد. وقد كانت هذه الانتصارات نتيجة مباشرة لتضافر عمل المقاومين مع الحاضنة الاجتماعية التي اعتمدت على الصمت والسرية، ما أدى إلى خلق بيئة صعبة الاختراق على العدو وحرمت الاحتلال من أي معلومة دقيقة تمكنه من التصدي للمقاومة أو تعطيل عملياتها.
الثغرة الأمنية
ومع تطور التكنولوجيا الحديثة، بدأت تظهر فجوات جديدة تهدد سرية المقاومة. فالهواتف المحمولة، وسائل التواصل، والتطبيقات المختلفة أتاحت للعدو إمكانية التنصت، تعقب المقاومين، ورصد تحركاتهم بسهولة لم تكن موجودة في الماضي. هذه الفجوة سمحت للاستخبارات الإسرائيلية بالوصول إلى معلومات دقيقة حول أماكن المقاومين وتحركاتهم اليومية، ما ساهم في استهدافهم واغتيالهم، وكشف الكثير من الخطط العسكرية قبل تنفيذها. وبالتالي، باتت السرية التقليدية التي اعتمدتها المقاومة في الثمانينات مهددة، ما يستدعي إعادة النظر في السلوكيات المتبعة وتغير نمط الحياة بين فترة بداية العمل المقاوم والزمن الحالي الذي ظهرت فيه مختلف أنواع التكنولوجيا التي استغلها الاحتلال ليخترق من خلالها المقاومة ومجتمعها ولمواجهة هذه الفجوة بعد ما حدث من ثغرات، أصبح من الضروري العودة إلى نهج التحفظ والكتمان الذي كانت البيئة الحاضنة تتبعه سابقاً. ويتضمن ذلك تقليل الاعتماد على الهواتف المحمولة للأحاديث الحساسة، تجنب مشاركة التفاصيل العسكرية أو التنظيمية، واعتماد طرق اتصال آمنة تحفظ سرية المقاومين وتقيهم من الاختراق. إن الانتباه لهذه الممارسات يعيد للمقاومة قدرتها على المناورة وإخفاء تحركاتها، ويحد من قدرة العدو على النفاذ إليها.
حياة ضباط العدو السرية
ضباط الاحتلال والمخابرات الإسرائيلية الموساد يعيشون حياة خاضعة لقواعد صارمة من السرية، حيث تُخفي هوياتهم الحقيقية وتُراقب تحركاتهم باستمرار. يُستخدم الهاتف المشفر للتواصل، ويتم تفادي أي وسيلة رقمية يمكن اعتراضها، كما يخضع التنقل والسكن لإجراءات مراقبة دقيقة. التقارير تشير إلى أن هؤلاء الضباط يلتزمون الصمت التام حول تفاصيل مهامهم حتى أمام المقربين، ويعتمدون على تغطيات متعددة أثناء السفر أو العمل الميداني. هذا الأسلوب يوضح كيف يعتمد العدو على التكتم الكامل للحفاظ على معلوماته وحماية جنوده من الاختراق أو الاستهداف، ما يعكس حجم خطورة التكنولوجيا التي نتورط نحن بشباكها ويتفاداها العدو.
دليل إضافي على خطورة التكنولوجيا ونمط الحياة المتبع حالياً ما جاء في تصريحات نتنياهو أمام أعضاء الكونغرس الأميركي، عندما قال: "إذا أنتم تحملون الهواتف، فأنتم تحملون جزءاً من إسرائيل بين أيديكم"، مشيراً بذلك إلى قدرة العدو على استغلال التكنولوجيا لتعقب وتحليل المعلومات. هذا التهديد يعكس حجم ما يواجهه المقاومون اليوم، ويؤكد ضرورة تعزيز الحذر والالتزام بالسرية في كل تفاصيل حياتنا اليومية، بما يضمن استمرار نهج المقاومة وحماية وجودها.
إن بيئة المقاومة الحاضنة، سواء في الثمانينات أو في حاضرنا، لعبت دوراً جوهرياً في الحفاظ على استمرارية العمل العسكري المقاوم وتحقيق الأهداف الاستراتيجية. فالتحفظ والسرية ليسا مجرد أساليب حماية، بل هما أدوات تمكين للمقاومة، تخلق فجوة يصعب على العدو اختراقها، وتمنحها القدرة على التخطيط والتنفيذ دون قيود. إن العودة إلى هذا النهج التقليدي ومراعاة مقتضيات العصر الرقمي اليوم وتصويبه نحو العدو، يمثل خط الدفاع الأول في مواجهة الكيان، ويضمن أن تظل المقاومة فعالة وقادرة على حفظ لبنان، كما فعلت عبر تاريخها الطويل.
الكاتب: غرفة التحرير