يواجه الجيش الإسرائيلي أزمة متفاقمة في التجنيد الإلزامي، باتت تهدد قدرة المؤسسة العسكرية على الصمود في مواجهة التحديات الميدانية والسياسية. هذه الأزمة لم تظهر فجأة، بل هي نتاج تراكم مشكلات اجتماعية، ثقافية، وسياسية تتعلق بطريقة تنظيم الخدمة العسكرية في كيان الاحتلال، والتي تعتمد منذ تأسيس الكيان على التجنيد الإلزامي لجميع المستوطنين اليهود، مع استثناء واضح لأوساط الحريديم، الذين يُعفون بدعوى تكريس حياتهم للدراسة الدينية. اليوم، ومع استمرار الحروب المتعددة على أكثر من جبهة، يتكشف حجم الخلل، ويظهر الجيش مضطراً للبحث عن حلول عاجلة، غالبها لم يحقق نتائج ملموسة.
الاعتماد على الاحتياط
تتمثل المشكلة الأساسية في أن الجيش الإسرائيلي يعتمد على نظام الاحتياط بشكل كبير، بحيث يشكل جنود الاحتياط جزءاً حيوياً من أي عملية قتالية. ومع استمرار العمليات العسكرية منذ حرب غزة الأخيرة، استنزف الجيش قواه البشرية بشكل غير مسبوق، فيما تقلّ أعداد الراغبين بالبقاء في الخدمة الفعلية، وتزداد أعداد المتخلّفين عن التجنيد. وقد أظهرت المعطيات أن ظاهرة التهرّب من الخدمة لم تعد مقتصرة على الحريديم، بل امتدت لتشمل الشباب من الطبقات الوسطى والفقيرة، الذين يرفضون الانخراط في الجيش لأسباب اجتماعية ونفسية، خصوصاً مع الضغط الميداني الهائل والتوتر النفسي الناتج عن الحروب المستمرة.
أحد أبرز الحلول التي حاول الجيش الإسرائيلي تنفيذها هو تمديد فترة الخدمة الإلزامية في وحدات النخبة من 32 شهراً إلى نحو 44 شهراً، وذلك لتعويض النقص الحاد في القوى البشرية. هذا القرار أثار غضباً شعبياً واسعاً، إذ رأى العديد من الجنود وعائلاتهم أن هذه الخطوة تمثل استغلالاً واضحاً للجنود في مواجهة مهام تفوق قدراتهم، خصوصاً في ظل التحديات المستمرة في غزة، والجبهة الشمالية، وسوريا. شهادات من الخطوط الأمامية تصف الإرهاق الجسدي والنفسي الذي يعانيه الجنود، بما في ذلك صعوبة تأمين مقاعد داخل ناقلات الجنود أو مواجهة الضغوط النفسية اليومية.
استقطاب المتخلفين
للبحث عن مخرج من هذا المأزق، أطلق الجيش عملية جديدة أطلق عليها اسم "مبتدئون من جديد"، تهدف إلى استقطاب نحو 15 ألف متخلّف عن الخدمة الإلزامية، معظمهم من غير الحريديم، مع تقديم حوافز وترهيب في الوقت ذاته، من محو السجلات الإجرامية للعائدين إلى الخدمة، إلى تهديد المخالفين بعقوبات قانونية. العملية تشير بوضوح إلى عجز الجيش عن حل الأزمة داخلياً، حتى بات يفكر في استقطاب الشباب اليهودي من الشتات، خصوصاً في الولايات المتحدة وفرنسا، لتعويض النقص الحاد في الجنود.
الفجوة الاجتماعية والحروب
أزمة التجنيد تكشف بوضوح الفجوة الاجتماعية داخل كيان الاحتلال، حيث تتباين التجربة العسكرية بين المستوطنين. الحريديم يشكلون نحو 13% من السكان ويُعفون من الخدمة، بينما الطبقات الوسطى والفقيرة تتحمل العبء الأكبر، ما يخلق شعوراً بالتمييز ويزيد من الاحتقان الشعبي. هذا الواقع يجعل الجيش مضطراً للتكيف مع أهواء المجتمع، فتظهر فكرة "جيش متعدد الجبهات الاجتماعية"، حيث يتم تخصيص وحدات خاصة للحريديم، وأخرى للمتطوعين العاديين، بينما يتم إجبار المتخلّفين عن الخدمة أو استقطابهم من الخارج.
تتفاقم الأزمة أيضاً بسبب استمرار الحروب على أكثر من جبهة. القتال في غزة، والتهديدات في الشمال، يضاعف الضغوط على الجنود ويستنزف الاحتياطيين، ما يجعل أزمة التجنيد قضية استراتيجية تمس قدرة جيش الاحتلال على أداء مهامه الأساسية. التقديرات تشير إلى أن عدد المتخلّفين قد يصل إلى عشرات الآلاف خلال فترة قصيرة، وهو رقم كارثي لكيان صغير نسبياً يعتمد على جنود الاحتياطي بشكل كبير.
تواجه "إسرائيل" تحديات عميقة في منظومة تجنيدها العسكري، والتي لم تعد مقتصرة على أزمة مؤقتة، بل تحولت إلى أزمة هيكلية تهدد قدرة جيش الاحتلال على الاستمرار في المستقبل. حيث يتحمل الجنود العلمانيون العبء الأكبر، ما يخلق شعوراً من الاحتقان تجاه الحريديم. كما يشكل تمديد الخدمة الإلزامية وزيادة مدة الخدمة في وحدات النخبة تحدياً، إذ يثير غضب الجنود وعائلاتهم ويزيد من الاحتكاك بين المؤسسة العسكرية والمستوطنين، وقد يؤدي إلى تفاقم ظاهرة الاستقالة المبكرة والتسرب من الجيش، ما يضع المؤسسة العسكرية أمام مأزق حقيقي في الحفاظ على كفاءتها القتالية. من الناحية السياسية، تواجه "إسرائيل" صعوبة في تمرير قوانين تجنيد متوازنة، إذ تصطدم بمحاولات الإعفاء المتكررة لفئات محددة مثل الحريديم، ما يعكس ضعف التنسيق بين الكيان ومستوطنيه وهذا ما سيصدر عنه عجز دائم في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية دون قدرة فعلية على إيجاد الحل.
الكاتب: غرفة التحرير