الجمعة 17 تشرين أول , 2025 02:32

ارتفاع أسعار الذهب: البنوك المركزية العالمية والأميركية أول المشترين!

Jonathan Raa/NurPhoto via Getty Images

وصل الذهب إلى مستويات قياسية لم تشهدها الأسواق منذ عقود، مع تجاوز سعر الأونصة 4250 دولاراً، مسجلاً ارتفاعاً يزيد عن 60% منذ بداية العام، في أفضل أداء له منذ عام 1979. يعكس هذا الارتفاع حالة عدم اليقين التي عمقت السياسات الاقتصادية والسياسية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، إضافة إلى اضطرابات المؤسسات الأميركية، وتحولات استراتيجية في سلوك البنوك المركزية العالمية.

لعبت سياسات ترامب الاقتصادية والجمركية دوراً محورياً في خلق بيئة مالية غير مستقرة. الرسوم الجمركية الصارمة، التي فرضها على مجموعة واسعة من الدول بهدف تعويض تمويل الولايات المتحدة بدلاً من رفع الضرائب على المواطنين الأميركيين، أدت إلى إعادة تقييم الدول لعلاقاتها التجارية مع واشنطن. الدول التي كانت تعتمد على التجارة بالدولار الأميركي بدأت تبحث عن ملاذات أكثر أماناً، وأبرزها الذهب، كتحوط ضد أي تقلبات محتملة في السياسات الأميركية.

في حين، كانت مهاجمة ترامب لاحتياطات البنك الفيدرالي المتكررة من أبرز الأمور التي زادت المخاوف بشأن استقلالية البنك المركزي وقدرته على الحفاظ على قوة الدولار. هذا التوتر النقدي والسياسي جعل المستثمرين يركزون على أصول غير مرتبطة مباشرة بالدولة، ما أعاد الذهب إلى صدارة الخيارات الاستثمارية كملاذ آمن.

تفاقمت حالة عدم اليقين مع الإغلاق الحكومي الأميركي والمتوقع أن يطول، الذي يمثل انعكاساً واضحاً للخلاف المستمر بين الديمقراطيين والجمهوريين والذي انعكس فشلاً في تمرير قوانين تمويلية، خصوصاً في ظل اقتراب الانتخابات النصفية للكونغرس. الجمود السياسي أعاد إلى الأذهان هشاشة المؤسسات الأميركية وعمق الانقسام الداخلي، ما دفع المستثمرين المحليين والدوليين إلى توجيه رؤوس الأموال نحو الذهب. هذا الإغلاق لا يمثل فقط أزمة مالية مؤقتة، بل إشارة إلى أن السياسات الداخلية الأميركية قد تكون محفوفة بالمخاطر حتى على الاقتصاد العالمي.

وللمفارقة، أن شراء الذهب الذي بات ظاهرة عالمية تمثلت بطوابير أمام المحلات بيع الذهب في استراليا على سبيل المثال لا الحصر، وفي عدد كبير من الدول أيضاً، لم تقتصر على الافراد فقط، بل أن البنوك المركزية العالمية كان  لها الدور القيادي، حيث كانت مشترية للذهب لمدة 17 شهراً متتالية. بولندا، على سبيل المثال، أضافت أكثر من 60 طناً إلى احتياطياتها هذا العام وحده. هذا التحرك يعكس القلق من الاعتماد المفرط على الدولار الأميركي في التجارة الدولية، ويشير إلى تحول استراتيجي في كيفية إدارة الدول لمخاطرها المالية. هناك أيضاً تكهنات حول أن إدارة ترامب نفسها قد تكون قد عمليت بالفعل على تعزيز الاحتياطيات الأميركية من الذهب، خاصة مع الفارق الهائل بين القيمة الدفترية للاحتياطي الأميركي (حوالي 11 مليار دولار) والقيمة السوقية الحالية التي تتجاوز تريليون دولار، ما يمنح واشنطن هامشاً ماليا إضافيا.

التاريخ يعيد نفسه في كل مرة. في السبعينيات، ارتفع الذهب من 35 دولاراً للأونصة إلى 850 دولاراً خلال أقل من عقد، مع انهيار ربط الدولار بالذهب والأزمات العالمية، مثل صدمات النفط والغزو السوفيتي لأفغانستان وأزمة الرهائن الإيرانيين. بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، ارتفع الذهب مرة أخرى مع فقدان الثقة في المؤسسات المالية الكبرى، وعقب جائحة كورونا عام 2020، شهد المعدن الأصفر ارتفاعاً كبيراً نتيجة التضخم المستمر وتراجع قيمة الدولار. هذه الأنماط التاريخية تشير إلى أن الذهب لا يعكس فقط التضخم، بل يُعتبر مؤشراً أولياً على اضطرابات اقتصادية وجيوسياسية.

ارتفاع الذهب في الوقت الذي يسجل فيه مؤشر S&P 500 مستويات قياسية يعكس تبايناً فريداً في أسواق المال: بينما يراهن المتفائلون على أسهم الشركات التكنولوجية والطاقة المتجددة، يختار المتشائمون الذهب كملاذ آمن. هذا التباين يوضح أن الاقتصاد الأميركي لا يزال قوياً نسبيا، لكنه يواجه تحديات على صعيد الثقة بالمؤسسات والسياسات النقدية، وهو ما يعيد النقاش حول قدرة الدولار على الاستمرار كعملة احتياطية عالمية دون تعزيز بدائل مثل الذهب.

ارتفاع الذهب اليوم ليس مجرد انعكاس لتضخم محلي، بل يعكس تحولاً في النظرة الاستراتيجية للدول تجاه الدولار، ويضع واشنطن أمام تحديات مزدوجة: كيف توازن بين الحفاظ على هيمنة الدولار عالمياً وبين إدارة مخاطر داخلية تتعلق بالسياسة النقدية، الإغلاق الحكومي، والانقسام السياسي الداخلي. من جهة أخرى، قد يدفع الذهب المرتفع الدول إلى إعادة النظر في سياساتها الخارجية، خصوصاً في ظل سياسات أميركية جمركية أثبتت محدودية فعاليتها، والتحولات في العلاقات التجارية والتحالفات الدولية.

يتوقع بنك غولدمان ساكس وهو من أشهر المؤسسات المصرفية في واشنطن وصول سعر الذهب إلى 4900 دولاراً للأونصة بحلول كانون الأول/ديسمبر 2026، وهو ما يعكس استمرار الطلب العالمي كتحوط ضد المخاطر الاقتصادية والجيوسياسية. في الوقت نفسه، اصبح الدولار محل نقاش حول كفاءته كأداة لضمان الاستقرار المالي للدول، وسط تحركات البنوك المركزية العالمية لتعزيز احتياطاتها بالذهب. هذا التحول قد يعيد صياغة التوازنات المالية العالمية ويجبر واشنطن على مراجعة سياساتها الاقتصادية والنقدية لتقليل المخاطر المترتبة على اضطرابات الأسواق الدولية من جهة، واعادة صياغة السياسة الخارجية على المدى المتوسط والطويل بما يتناسب مع الوضع الاقتصادي الذي يولد ويتكون شيئاً فشيئاً.


الكاتب:

مريم السبلاني

-كاتبة في موقع الخنادق.

-ماجستير علوم سياسية.




روزنامة المحور