الخميس 18 أيلول , 2025 03:48

حرب أولي البأس: دراسة في قصور استراتيجيات مكافحة التمرد

مجتمع المقاومة وعناصر حزب الله

شهدت حرب أولي البأس توظيفًا مكثفًا لنظريات مكافحة التمرد، حيث حاول الاحتلال الإسرائيلي، بدعم أمريكي مباشر، المزج بين تجارب المدارس الفرنسية والبريطانية والأمريكية، مستعينًا بوسائل حديثة تشمل الذكاء الاصطناعي والعمليات العسكرية المتطورة. إلا أن هذه المحاولة طرحت تساؤلات حول مدى فاعلية تلك النظريات عند مواجهة مجتمع مقاوم متجذر في بيئته السياسية والاجتماعية، ومحصّن بهوية جماعية راسخة.

تسعى هذه المقالة إلى تحليل إخفاق نظريات مكافحة التمرد الفرنسية والبريطانية والأمريكية عند تطبيقها على تجربة المقاومة في لبنان خلال حرب أولي البأس، وتوضيح العوامل التي جعلت هذه الاستراتيجيات عاجزة عن تحقيق أهدافها. ويبرز البحث كيف استطاع مجتمع المقاومة أن يعيد إنتاج نفسه ويحافظ على قدراته العسكرية والتنظيمية رغم الضربات الممنهجة.

تبيّن المقالة أن المدرسة الفرنسية ركزت على نظرية "السمكة والأكواريوم" القائمة على عزل المتمردين عن بيئتهم، بينما اعتمدت المدرسة البريطانية على استراتيجية "كسب القلوب والعقول" من خلال الدمج بين القوة والتنمية. أما المدرسة الأمريكية الحديثة فتبنّت نموذج Clear–Hold–Build الذي يقوم على إزالة المتمردين، تثبيت السيطرة، ثم بناء الشرعية. ورغم تنوع هذه المقاربات، أظهرت التجربة اللبنانية فشلها جميعًا في فصل المقاومة عن بيئتها. فقد أدى الضغط العسكري والاغتيالات والتدمير إلى تعزيز ولاء المجتمع للمقاومة، بينما لم تنجح مشاريع إعادة الإعمار أو بناء الدولة بشكل بديل في استقطاب السكان. وتكشف المقالة أن غياب الرؤية الاستراتيجية، حتى مع استخدام أدوات تكنولوجية متقدمة كالذكاء الاصطناعي، قاد الاحتلال إلى نتائج عكسية عززت شرعية المقاومة وجعلت المجتمع نفسه قاعدة لامركزية لإعادة إنتاجها.

أولًا: أدبيات مكافحة التمرد

المدرسة الفرنسية: نشأت مع تجارب الهند الصينية والجزائر، واعتمدت على السيطرة بالقوة والاستخبارات ضمن إطار نظرية "السمكة والأكواريوم"، التي تهدف إلى عزل المتمرد عن بيئته. لكن هذه المقاربة فشلت لأنها زادت من عداء السكان وعززت الولاء للمقاومة.

المدرسة البريطانية: خلال حرب مالايا ضد الشيوعيين، اعتمدت استراتيجية "القلوب والعقول" التي دمجت بين القوة والتنمية وبناء الشرعية. ورغم نتائجها المؤقتة، أثبتت التجربة أنها لم تُعالج الجذور العميقة للمقاومة.

المدرسة الأمريكية: بعد فيتنام، تراجع الاهتمام بمكافحة التمرد، لكنه عاد بعد 2001. فظهر الدليل الميداني FM 3-24 الذي صاغ نموذج Clear–Hold–Build. ورغم مرونته، اصطدم بعقبات كبيرة في العراق وأفغانستان، حيث فشل في بناء شرعية حقيقية أو استدامة النتائج.

ثانيًا: تطبيق النظريات على المقاومة في لبنان

- مرحلة: Clearركز الاحتلال على قتل القيادة المركزية وتدمير البنية العسكرية، إلا أن ذلك لم يفصل المقاومة عن بيئتها. بل تحوّل المجتمع إلى قاعدة بديلة لإنتاج مقاومة لامركزية.

- مرحلة: Holdحاول الاحتلال تثبيت مكاسب المرحلة الأولى عبر حصار وقمع ممنهج، لكن هذه السياسة عمّقت التلاحم الاجتماعي وعززت شرعية المقاومة بدلًا من إضعافها.

- مرحلة: Buildسعت الولايات المتحدة إلى إعادة تشكيل الدولة اللبنانية بغطاء شرعي جديد يخدم أهدافها. غير أن هذه الجهود لم تُقنع البيئة الحاضنة، بل ولّدت قناعة بأن الدولة المفروضة خارجيًا ليست سوى أداة للضغط على المقاومة.

ثالثًا: غياب الرؤية
رغم محاولات استنساخ المدارس الكلاسيكية وتوظيف أدوات متطورة، فشل الاحتلال في تلويث "الأكواريوم" اللبناني. إذ استمرت البيئة الحاضنة في دعم المقاومة، وتحوّل الضغط العسكري والاقتصادي والسياسي إلى حافز لتعزيز الهوية الجمعية للمجتمع المقاوم. وبذلك، نجح الاحتلال في استهداف القيادة، لكنه فشل استراتيجيًا في عزل المقاومة عن مجتمعها.

رابعًا: العوامل المركزية للإخفاق

- الاندماج الكلي للهوية الدينية والسياسية والاجتماعية، ما جعل أي استهداف للمقاومة يُفهم كعدوان على الجماعة نفسها.

- الاستنزاف المعنوي للعدو بفعل المجازر والاعتداءات، التي حولت الألم إلى طاقة تضامن وفق نظرية الصدمة الجماعية.

- القدرة على التكيف وإعادة إنتاج المقاومة من المجتمع ذاته، في انسجام مع نظرية الحركات الاجتماعية وحرب الشعب.

- فشل خلق شرعية بديلة، إذ لم يُقدّم الاحتلال نموذج حكم أو مؤسسات تقنع السكان بالتخلي عن المقاومة.

خامسًا: السيناريوهات المستقبلية

- السيناريو المرجّح: استمرار مقاومة لامركزية متجددة، مع بقاء المجتمع قاعدة صلبة لها.

- سيناريو التصعيد: قد يؤدي إلى خسائر كبرى، لكنه يعزز ولاء المجتمع ويقوّي المقاومة على المدى البعيد.

- السيناريو المعتدل: تهدئة نسبية تسمح بإعمار محدود، لكنها لا تُضعف البيئة الحاضنة التي تزداد وعيًا وتنظيمًا.

أظهرت التجربة اللبنانية أن استهداف القيادة العسكرية أو استخدام التكنولوجيا المتقدمة لا يكفي لإضعاف مقاومة متجذرة في هوية جمعية صلبة. لقد فشلت كل محاولات الاحتلال في بناء شرعية بديلة، فيما نجح المجتمع المقاوم في تحويل الضغط إلى دافع لإعادة إنتاج نفسه. وبذلك، يبقى قصور الرؤية الاستراتيجية هو السمة الأبرز في إخفاقات نظريات مكافحة التمرد أمام نموذج المقاومة في لبنان.





روزنامة المحور