الثلاثاء 09 أيلول , 2025 02:14

ترامب واجهة.. ونتنياهو القائد: مشروع تصفية غزة تحت ستار المفاوضات

ترامب ونتنياهو

في كل مرة يتحدث فيها الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن غزة، يظهر بجلاء أنّه لا يقدّم مبادرة مستقلة بل يقرأ نصًا صاغته تل أبيب. فالمقترح الأخير الذي قدّمه حول تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار ليس أكثر من إعادة إنتاج للشروط "الإسرائيلية"، مغلفة بخطاب أميركي متعجرف يحمّل المقاومة وحأميردها مسؤولية استمرار الحرب.

اللافت أنّ ترامب لم يعد يتحدث كوسيط، ولا حتى كطرف يوازن بين الضغوط الداخلية والخارجية، بل صار يتبنى بالكامل "الرؤية الإسرائيلية"، متجاهلًا الوساطات المصرية والقطرية والأممية. وحتى مبعوثه الرسمي، ستيف ويتكوف، تم تجاوزه لصالح صهره جاريد كوشنر، الذي يلعب دورًا مباشرًا في صياغة "اليوم التالي" للحرب، وفق رؤية نتنياهو "ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي" رون ديرمر.

الرسالة واضحة: الولايات المتحدة لم تعد حتى تتظاهر بأنها تسعى لسلام عادل. ما يُطرح هو "مشروع إسرائيلي" معلن بأدوات أميركية. وهذا يعيدنا إلى جوهر السياسة الأميركية في الشرق الأوسط: لا وجود لاستقلالية القرار، بل مجرد واجهة دبلوماسية تُدار منها لعبة "القوة الإسرائيلية".

نتنياهو القائد الفعلي للمشهد

في المقابل، يبدو بنيامين نتنياهو هو المستفيد الأول من هذا التلاعب. فالمقترح الذي يصرّ ترامب على تسويقه يضمن "لإسرائيل" استعادة أسراها دون أن تدفع ثمنًا سياسيًا أو عسكريًا، ويتيح لها إفشال المفاوضات لاحقًا والعودة لمواصلة الحرب بذريعة جديدة.

"المحللين الإسرائيليين" أنفسهم أكدوا على صعوبة فهم طرح صفقة يدرك الجميع أنّ حماس سترفضها. لكن المنطق هنا ليس الوصول إلى تسوية، بل شراء الوقت لمواصلة تدمير غزة عمرانيًا واجتماعيًا. "فإسرائيل" لم تكتفِ بالقتل والتهجير؛ هي تسعى لتدمير البنية المدنية والمؤسساتية للقطاع بحيث لا يتبقى للفلسطينيين ما يمكن البناء عليه.

حين يعلن ترامب أنّه تم تدمير 50 "برجًا إرهابيًا"، فإنّ الخطاب يعكس عقيدة "إسرائيلية" متجذّرة: تحميل الضحية مسؤولية دمارها. بعض هذه الأبراج كان يضم منظمات حقوقية ومؤسسات إعلامية، لكن التسمية "الإسرائيلية" تحوّل كل مساحة فلسطينية إلى "هدف شرعي".

بهذا المعنى، يتصرّف نتنياهو باعتباره القائد الفعلي للمشهد، فيما يكتفي ترامب بدور المروّج الإعلامي. والنتيجة: صفقة مفروضة بالكامل وفق منطق القوة العارية، لا منطق السياسة.

غزة بين الإبادة والمقاومة

لكن الصورة ليست أحادية الجانب. فرغم حجم الدمار الهائل والضغط السياسي والعسكري، تواصل المقاومة فرض معادلاتها الميدانية. العمليات النوعية الأخيرة التي استهدفت الدبابات والآليات "الإسرائيلية" في الشيخ رضوان وجباليا كشفت أن الحرب لم تنتهِ وأن جيش الاحتلال يواجه مأزقًا وجوديًا، وأعترف الاحتلال بمقتل ضابط وثلاث جنود في هذه العملية. ارتفاع الخسائر البشرية وتراجع معنويات الجنود دفع قادة الأركان الإسرائيليين إلى البحث عن بدائل، لكن المعادلة تظل مغلقة: أي تقدم بري يزيد من خسائر الجيش، وأي تراجع يفضح عجزه.

في المقابل، أظهرت حماس استعدادًا للتفاوض الفوري حول إطلاق الأسرى وإنهاء الحرب، شرط الانسحاب الإسرائيلي الكامل وضمان إدارة فلسطينية مستقلة للقطاع. لكن هذا الانفتاح لم يُترجم إلى اتفاق لأن المقترح الأميركي صُمّم ليكون فخًا: استعادة الأسرى أولًا ثم ترك غزة تحت رحمة آلة الحرب.

المعضلة هنا تتجاوز تفاصيل المفاوضات. فالمشروع الأميركي ـ "الإسرائيلي" يقوم على مبدأ "الإبادة أولًا، المفاوضات لاحقًا". أي أنّ وقف إطلاق النار ليس نهاية الحرب، بل محطة لتجديدها في ظروف أكثر ملاءمة "لإسرائيل". وهذا ما يجعل الموقف الفلسطيني معقدًا: أي رفض للمقترح يعني استمرار الحرب، وأي قبول به يعني الوقوع في فخّ إعادة إنتاج السيطرة "الإسرائيلية".

غضب أهالي الأسرى: نتنياهو "خائن" حتى لليهود

في قلب المشهد "الإسرائيلي"، يظهر عنصر بالغ الدلالة: عائلات الأسرى نفسها خرجت إلى الشوارع، ترفع لافتات ضد حكومة نتنياهو وتصفها بـ"حكومة الموت". هذا الغضب الشعبي يكشف التناقض العميق بين الخطاب الرسمي "الإسرائيلي" وبين المصلحة الإنسانية المباشرة لأسر الجنود المحتجزين. فالأمهات اللواتي هتفن ضد نتنياهو لم يعدن يرين فيه زعيماً يفاوض من موقع قوة، بل خصماً مباشراً يهدد حياة أبنائهن. في هذا التحول، تتبدى أزمة "إسرائيل" الداخلية: السلطة السياسية تفضل استمرار الحرب حتى الرمق الأخير، ولو على حساب جنودها، في حين تُترك العائلات وحيدة في مواجهة استراتيجيات المماطلة التي يطبخها نتنياهو وترامب. إن وصف أهالي الأسرى لنتنياهو بأنه "أسوأ عدو لليهود" لا يفضح فقط عمق الشرخ داخل المجتمع "الإسرائيلي"، بل يضرب الأساس الأخلاقي الذي طالما حاولت المؤسسة الحاكمة تسويقه: حماية حياة "الإسرائيليين". وهنا يصبح جلياً أن الحرب، في جوهرها، لم تعد فقط ضد الفلسطينيين، بل ضد المجتمع "الإسرائيلي" نفسه، الذي يُستنزف إنسانياً وسياسياً في لعبة متهورة.

ملهاة سياسية تخفي مشروع إبادة

ما يجري اليوم ليس تفاوضًا بالمعنى التقليدي، بل ملهاة سياسية تهدف إلى منح "إسرائيل" الغطاء لمواصلة حربها. ترامب، بصفته واجهة صاخبة، يوفّر للإدارة الأميركية القدرة على تسويق هذه "الخطة" كمسعى للسلام، بينما يعرف جيدًا أنها ليست سوى مشروع تصفية تحت ستار المفاوضات.

هذا يفسّر أيضًا التناقضات في خطاب نتنياهو: يرفض الصفقة الجزئية حين تقبلها حماس، ويعود للمطالبة بها حين توافق على الكاملة. الهدف ليس التوصل إلى اتفاق، بل إدامة حالة الحرب حتى تحقيق مشروع التهجير والإبادة.

إنّ ما يواجهه الفلسطينيون اليوم يتجاوز ملف الأسرى أو تفاصيل الصفقة. القضية الحقيقية هي محاولة محو غزة من الوجود، سياسيًا وعمرانيًا وبشريًا. وبهذا المعنى، فإنّ الحديث عن مفاوضات ليس سوى غطاء لمخطط أكبر: تحويل غزة إلى أرض محروقة بلا مستقبل، وترك الشعب الفلسطيني عالقًا بين خيارين كلاهما مرّ.

 


الكاتب: محمد الأيوبي




روزنامة المحور