يشهد لبنان في العقدين الأخيرين تدهورًا غير مسبوق في البنية السياسية والاجتماعية، انعكس ليس فقط في الأزمات المالية والاقتصادية، بل في تفكك المفاهيم الوطنية والسياسية الأساسية، وتحوّلها إلى أدوات صراع داخلي بين محور يتمسك بالثوابت الوطنية والمقاومة، والسيادة الحقيقية، وآخر يدعو إلى الحياد والانفتاح والتطبيع. يهدف هذا التقرير إلى تفكيك وتحليل المفاهيم السياسية المتداولة اليوم في لبنان، ورصد كيفية تحريفها أو إعادة توظيفها ضمن الصراعات السياسية والجيوسياسية.
أولاً: الخلفية العامة للصراع الخطابي في لبنان
تتوزع الخريطة السياسية اللبنانية بين محورين:
- محور "الثوابت الوطنية" الذي يرفع مفاهيم السيادة، المقاومة، رفض التطبيع، والتحرر من التبعية الغربية.
- محور "السيادة والحياد" الذي يدعو إلى نزع سلاح حزب الله، الحياد الإيجابي، والانفتاح على الخليج والغرب، والكيان المؤقت، ويعارض ما يسميه "الوصاية الإيرانية".
هذا الانقسام انعكس في إعادة تعريف كثير من المفاهيم السياسية الأساسية، ما أدى إلى فوضى مفاهيمية تُعطل إمكان بناء دولة جامعة.
ثانيًا: قراءة سريعة للمفاهيم المتداولة بحسب الجبهتين:
ملاحظات تحليلية هامة
- المفاهيم تُوظَّف وظيفيًا وليس بنيويًا: أي أنها تُستخدم لأغراض سياسية أكثر مما تُبنى كأسس للدولة والمجتمع.
- الخطاب متداخل أحيانًا: بعض الأطراف تستخدم مفاهيم من الجهتين بشكل انتقائي.
- غياب المرجعية الوطنية الجامعة: لا توجد مرجعية وطنية موحدة للمفاهيم، وهذا يعمّق الانقسام ويمنع الوصول إلى مشروع سياسي مشترك.
- الصراع ليس فقط على السياسات، بل على اللغة نفسها: هناك طرف يحاول إعادة تعريف المفاهيم الأساسية مثل "السلام"، "الكرامة"، "السيادة"، "المقاومة"، لتناسب أجندته الجديدة التي يحاول فرضها على اللبنانيين.
تداعيات تحوير المفاهيم على مشروع الدولة:
- تفكك المشروع الوطني الجامع.
- تصاعد الانقسام الخطابي والطائفي.
- صعوبة الاتفاق على أي إصلاح أو مشروع إنقاذ.
- إضعاف ثقة اللبناني بالمؤسسات وبالانتماء الوطني.
- محاصرة وتفتيت المشروع المقاوم المواجه لأطماع العدو المستمرة.
ثالثا: الاستنتاجات والتوصيات:
- ضرورة إعادة ضبط المفاهيم وفق المرجعيات الدستورية والقانونية.
- بناء خطاب وطني جامع ينطلق من وحدة الدولة لا الطائفة.
- تعزيز التربية الوطنية والفكر النقدي لدى الأجيال الجديدة.
- تحصين المفاهيم ضد التوظيف السياسي والإعلامي.
في ظل التعقيدات البنيوية للنظام اللبناني، والتدخلات الخارجية المتشابكة، والانقسامات الطائفية الحادة، باتت المفاهيم الكبرى مثل الدولة، السيادة، القرار، المقاومة، الحياد، العدالة، المواطنة، حماية الثروات، ترسيم الحدود، والفدرلة، عرضة للتفريغ من مضامينها الحقيقية، وإعادة تعبئتها بما يخدم مصالح فئوية أو محاور إقليمية.
لقد تبيّن أن هناك طرف سياسي (مرتبط بأجندات امريكية-غربية وإسرائيلية- وبعض المطبعين العرب في لبنان) يُعيد تعريف هذه المفاهيم بما يخدم موقعه، فيسمي السلاح الشرعي (دستوريا وقانونيا واخلاقيا)، الهيمنة والتهديد في الداخل، أو التبعية انفتاحًا، أو التطبيع خيارًا سياديًا، أو الخيانة وجهة نظر وحياد، أو المقاومة إرهابًا. وهكذا تصبح اللغة السياسية ذاتها ساحة معركة، لا مجرد وسيلة تفاهم، ما ينسف إمكانية التأسيس على أرضية مفهومية مشتركة لأي مشروع وطني.
وتبرز خطورة هذا التلاعب الخطابي في أنّه لا يؤدي فقط إلى شلل سياسي أو تضليل شعبي، بل يُنتج تفسيرات متناقضة لمعنى الوطن، والعدو، والحق، والمصلحة العامة. وبالتالي، تصبح الدولة في مهبّ الطوائف، والمفاهيم في خدمة الانقسام، والواقع في قبضة الخارج.
إن مواجهة هذا الواقع لا تكون بمجرد الانحياز لمحور دون آخر، بل بإعادة ضبط المفاهيم وفق معايير سياسية وأخلاقية واضحة: دولة ذات سيادة حقيقية، مقاومة مشروعة وفقا للدستور، سلم لا يقوم على استسلام، حياد لا يعني تخليًا عن القضايا العادلة، وعدالة لا تميّز بين فاسد ومقاوم، ولا بين حليف وخصم. كما أن حماية الثروات لا تكتمل بدون حوكمة نزيهة ودرع حامي جاهز لمواجهة اطماع العدو فيها، والمواطنة لا تتحقق بدون دولة قادرة تساوي بين الجميع.
في المحصّلة، إن معركة لبنان اليوم ليست فقط سياسية أو اقتصادية أو حتى جيوسياسية، بل هي معركة على المعاني، على اللغة التي نصوغ بها وعي الناس وتصوراتهم. وإذا لم يُسترجع المعنى الصحيح للمفاهيم، فستبقى الدولة مرهونة للخطابات، والمشاريع الوهمية، والمجتمع أسيرًا لوهم الاستسلام والتسويات.