يستعرض هذا المقال، الذي أعدّه حسين آغا وروبرت مالي ونشره موقع مجلة "فورين آفيرز" وترجمه موقع الخنادق الالكتروني، موضوع الكذب لدى الإدارة الأمريكية وخاصةً فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية ووهم "حل الدولتين" - الذي لا يزال بعض الحكام العرب متوهمين بإمكانية حصوله -. ويؤكد الكاتبان بأن الخداع الأمريكي ليس جديداً، فجذوره تعود إلى ما قبل حرب طوفان الأقصى، وتمتد إلى ما يتجاوز الصراع مع الكيان المؤقت. مشيرين إلى أن هذا الخداع تحوّل إلى عادة، وأن أمريكا على مدى عقود، أوهمت العالم بموقفها من الصراع، متظاهرة بأنها وسيط بينما هي في الحقيقة طرف منحاز.
وأشار الكاتبان الى أن الكذبة تولد من الفشل وتزدهر بتكراره، وأنه مع تراجع نفوذها في المنطقة، لجأت واشنطن إلى التضليل وإنكار الواقع، فيما لن تفعل أي شيء أمام ما قد يحصل فيه، سوى التأمل في الركام.
النص المترجم:
في أيّ يوم من أيام الحرب الطويلة في غزّة، كان يمكن أن يُتوقّع من مسؤول في إدارة بايدن أن يطلق واحداً من التصريحات الآتية: إنّ وقف إطلاق النار بات قريباً، وإنّ الولايات المتحدة تعمل بلا كلل لتحقيقه، وإنها تُعنى بالإسرائيليين والفلسطينيين على حدّ سواء، وإنّ اتفاق تطبيع تاريخياً بين السعودية وإسرائيل على وشك أن يرى النور، وإنّ كل ذلك مرتبط بمسارٍ لا رجعة فيه نحو قيام دولة فلسطينية.
لم يكن أيّ من هذه الأقوال قريباً حتى من الحقيقة. فالمفاوضات حول وقف إطلاق النار كانت تجرجر أقدامها، وعندما كانت تثمر مؤقتاً، سرعان ما تنهار التفاهمات. والولايات المتحدة امتنعت عن فعل الشيء الوحيد القادر فعلاً على فرض وقف النار: ربط المساعدات العسكرية لإسرائيل أو وقفها.
وكان ذلك أيضاً الشيء الوحيد الكفيل بأن يبرهن، بما يتجاوز الشعارات، على التزام أميركي بحماية حياة كلّ من الإسرائيليين والفلسطينيين. أمّا السعودية فظلّت تكرّر أنّ التطبيع مع إسرائيل مشروط بالتقدّم نحو إقامة دولة فلسطينية، في حين كانت الحكومة الإسرائيلية ترفض هذا الخيار بشكل قاطع. ومع مرور الوقت، انكشفت التصريحات الأميركية بوصفها كلاماً فارغاً، قوبل بعدم التصديق أو باللامبالاة. لكن ذلك لم يمنع تكرارها. فهل كان صانعو القرار الأميركيون يؤمنون بما يقولون؟ وإن لم يكونوا، فلماذا استمرّوا في قوله؟ وإن كانوا، فكيف تجاهلوا كل هذا الكمّ من الأدلة المناقضة أمام أعينهم؟
لقد شكّلت هذه الأكاذيب غطاءً لسياسةٍ مكّنت إسرائيل من شنّ هجماتها الضارية على غزة، في الوقت الذي صُوّر فيه أيّ تحسّن ضئيل وعابر في أوضاع القطاع على أنه ثمرة للإنسانية الأميركية وإصرارها. كان عهد ترامب قد شهد تصعيداً في وحشية إسرائيل، لكن الأكاذيب التي سبقته هي التي مهّدت الطريق. لقد ساعدت في تطبيع القتل العشوائي، واستهداف المستشفيات والمدارس والمساجد، واستخدام الغذاء كسلاح، والاعتماد المستمر على السلاح الأميركي. لقد بُسطت الأرضية، ولم يعد هناك مجال للتراجع.
ولم يكن الخداع جديداً. جذوره تعود إلى ما قبل حرب غزة، وتمتد إلى ما يتجاوز الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي. لقد تحوّل إلى عادة. على مدى عقود، أوهمت الولايات المتحدة العالم بموقفها من الصراع، متظاهرة بأنها وسيط بينما هي في الحقيقة طرف منحاز. أوهمت حين صاغت ما سُمّي "عملية السلام"، التي أسهمت أكثر في ترسيخ الوضع القائم بدلاً من تغييره. أوهمت حين ادّعت أن سياساتها الأوسع في الشرق الأوسط تهدف إلى تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان. أوهمت حين اعتبرت إخفاقاتها نجاحات.
ومع انكشاف هذه الأكاذيب وصعوبة تجاهلها، تضاءل النفوذ الأميركي. الإسرائيليون والفلسطينيون وغيرهم من الفاعلين المحليين تجاهلوا المسرحية، تاركين وراءهم العبارات المكرورة عن حل الدولتين والسلام والديمقراطية والوساطة الأميركية، وعادوا إلى مواقف غريزية صلبة متجذرة في ماضيهم. كما في العقود السابقة، عاد الفلسطينيون، التيه يطوّقهم، بلا قيادة، غارقين في الغضب والتوق للانتقام، إلى أعمال عنف متفرّقة ضد الإسرائيليين، في انتظار اليوم الذي تتخذ فيه شكلاً منظماً. وكما من قبل، راحت إسرائيل، طليقة اليدين بلا رادع، تمدّ ذراعها لتقتل أيّ فلسطيني تراه هدفاً: في السبعينيات في عمّان وبيروت وتونس وباريس وروما؛ واليوم في الدوحة وطهران. من الجانبين، ما هو أسوأ قادم. والولايات المتحدة لن تفعل سوى التأمل في الركام.
تشريح الفشل
تسير حياة السياسة الأميركية الفاشلة في الشرق الأوسط على مراحل. تبدأ بالنهج الخاطئ، وسوء قراءة الموقف، والخطأ المتعمّد أو العفوي. كما حين يزعم المسؤولون الأميركيون أنّ أفضل طريقة للتأثير على إسرائيل ليست بالضغط بل بالاحتضان. أو حين يتدخلون برعونة في السياسة الفلسطينية، محاولين تنصيب مجموعة من "القادة المعتدلين"، فيتحوّل دعمهم في نظر الناس إلى وصمة. أو حين يستبعدون من عملية السلام القوى الأكثر قدرة على نسفها: المستوطنون والمتديّنون القوميون في إسرائيل، واللاجئون والإسلاميون في فلسطين؛ أولئك الذين يعتبرون التنازل عن شبر من الأرض بين النهر والبحر بمثابة اقتلاع الروح.
مفارقة السياسة الأميركية أنّ أصحابها يعرفون الكثير ويفهمون القليل. فالمعلومة ليست فهماً، بل قد تكون عكسه. ففي عام 2000، أكّد مسؤولون استخباراتيون رفيعو المستوى للرئيس بيل كلينتون أنّ ياسر عرفات لن يجرؤ على رفض مقترحاته في قمة كامب ديفيد، وأنه سيكون مجنوناً إن فعل. لكن عرفات رفضها، وعاد بطلاً بين شعبه. وفي 2006، تجاهلت إدارة بوش المؤشرات الواضحة على فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية التي طالبت بها واشنطن أصلاً.
بعد سنوات، ومع اندلاع الانتفاضة السورية عام 2011، صوّرت المعلومات الاستخبارية ساحة معركة بدا فيها أنّ بقاء الأسد مستحيل على المدى القصير وأنّ طريق المعارضة إلى النصر قريب. وخلال إدارة بايدن، اعتمد المسؤولون الأميركيون على تقارير استخبارية لتقييم موقف القيادة الإيرانية من اتفاق نووي محتمل، فإذا بها كثيراً ما تخطئ. تفاجأوا بانتصار طالبان الخاطف بعد الانسحاب من أفغانستان، وبعملية حماس في 7 أكتوبر ضد إسرائيل، وبسقوط نظام الأسد في العام التالي، بل تفاجأوا لأنهم تفاجأوا.
لم تكن هذه الصدمات نتيجة تلاعب متعمّد بالمعلومات لتوافق أهواء السياسيين، كما حدث عام 2003 حين قدّمت وكالة الـCIA للرئيس جورج بوش الابن ما أراد سماعه: أنّ صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل وأنّ القضية "محسومة". بل كانت نتيجة دينامية أقل خبثاً ولكنها لا تقل خطورة: تجاهل التحذيرات الملازمة للمعلومات الاستخبارية الخام. فكثيراً ما يُذكَّر المسؤولون بأنّ ما بين أيديهم مجرد محادثة واحدة في مكان وزمان محدّدين، وأنّ امتلاك قطع من اللغز قد يكون مضللاً أكثر من غيابها. لكنهم مع ذلك يفتتنون بالوهم: إحساس بأنهم يطلّون مباشرة على عقول الخصوم. يقرأون ويفهمون بالكاد، يقرأون أكثر ويفهمون أقل.
الأغرب ليس فقط أنّ الولايات المتحدة أساءت التقدير مراراً، فهذا أمر شائع. بل الأغرب أنّ هذه الإخفاقات المتكررة لم تؤدِّ إلى محاسبة شخصية أو مؤسسية، ولا حتى إلى مراجعة جدّية. فما الذي يجعل أميركا عصيّة على التعلّم؟ المرحلة التالية في حياة الفشل الأميركي هي تكراره.
والأكثر إرباكاً من الأخطاء أو تكرارها هو عادة المسؤولين الأميركيين في ترديد الأكاذيب حتى بعد إدراكهم أنها مكشوفة، بل حتى بعد علمهم بأن الآخرين يدركون ذلك. وهنا تبلغ دورة الفشل مرحلتها الأخيرة: الكذبة. فالكذبة تولد من الفشل وتزدهر بتكراره. السياسيون يفعلون ما يظنون أنه سينجح، يعيدون فعله بعد فشله، يزعمون أنه نجح فيما الجميع يعلم العكس، يعدون بأنه سينجح وقد نفد صبر الجميع. تنفصل التصريحات عن الواقع وتتحوّل إلى "كلام تفاؤل" أجوف، يتجاوز مجرد التجميل الإعلامي ليصبح موقفاً استراتيجياً تقريباً من الإنكار المفرط. هذه الطريقة المريحة التي تطلق بها الولايات المتحدة تصريحات متفائلة تتناقض مع الأدلة وسجلّها البائس، هي ما يثير الدهشة والحيرة.
كيف تتحوّل الأوهام إلى أكاذيب
الكذب في صلب السياسة والدبلوماسية، لكن هناك أنواعاً من الأكاذيب. منها ما يخدم "الصالح العام"، كما فعل كينيدي حين أخفى عن الرأي العام التفاهم السري مع السوفيات حول صواريخ تركيا لإنهاء أزمة كوبا. ومنها الكذبة الكبرى الفجّة المتكررة حتى تُزرع في العقول، ومنها الكذبة البراغماتية التي يتقنها أمثال كيسنجر، والتي مارستها إدارة بوش قبل غزو العراق، لتبرير الحرب أو الحيلولة دونها. وهناك كذبة اليائس المستميت لبثّ الأمل، كما فعل الناطق باسم صدام عام 2003 وهو يعلن النصر وسط الخراب. وهناك كذبة الضعيف، كما فعل عرفات وهو يناور بين مصر وسوريا والسعودية، يقول لكل طرف ما يريده، يخفي ويظهر ما يشاء. فخسر ثقة الجميع لكنه أبقى قضيته حيّة.
بعض الأكاذيب تنجز أهدافاً، مهما كانت قبيحة أو عنيفة. لكن الأكاذيب التي نخرت دبلوماسية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط لم تكن من هذا النوع. فهي لم تخدع أحداً، ومن رددها كان يعلم أنها لا تخدع أحداً. هي أكاذيبٌ استُعملت حين أعلنت إدارة تلو أخرى تصميمها على حلّ الدولتين بعد أن صار مستحيلاً، حين أكّدت إدارة بايدن أنّها تهتم بحياة الفلسطينيين والإسرائيليين على السواء، حين صوّرت سعيها لوقف إطلاق النار بأنه لا يعرف الكلل، أو زعمت أنّ التطبيع السعودي–الإسرائيلي وشيك.
هل هي كلها أكاذيب؟ الكلمة قد تبدو قاسية. كثير من هذه التصريحات بدأ كتوهّم أو خداع للذات. في جنيف عام 2000، كان الفريق الأميركي مقتنعاً أن حافظ الأسد سيرفض العرض الإسرائيلي، ومع ذلك ذهبوا، ربما لأنهم أقنعوا أنفسهم بوجود احتمال ضئيل. وفي كامب ديفيد، أقنع الأميركيون أنفسهم بأن اتفاقاً بين عرفات وباراك قريب رغم عدم التوافق على القضايا الجوهرية. وكيري، حين بدأ مهمته في عهد أوباما، أعلن أنّ الطرفين أقرب إلى اتفاق من أي وقت مضى. لم يكن يتظاهر؛ بل كان مؤمناً بأنّ الإرادة والمثابرة كافيتان. ومسؤولو بايدن حين قالوا إنّ السعودية مستعدة للتطبيع، كانوا على الأرجح صادقين، إذ هذا ما أوحى به محمد بن سلمان في جلساته الخاصة.
مع تكرار الوهم، يذوب الخط الفاصل بين خداع الذات والخداع المتعمّد. ومع كثرة التكرار، يتحوّل الوهم إلى كذبة، والكذبة المتكررة تصير طبيعة ثانية، تنفصل عن أصلها وتتحوّل إلى وهم جديد. فعلى مدى عقود، ظلّ المسؤولون الأميركيون يردّدون التزامهم بحلّ الدولتين وبإمكان نجاح جولة مفاوضات جديدة، ربما بدافع قناعة حقيقية في البداية. لكن مع الفشل تلو الفشل، لم تعد المسألة وهماً بل أصبحت خداعاً.
إنها إحدى تلك الظواهر التي لا يُدرَك عمقها إلا بالتجربة: الأميركيون آمنوا بجدوى جنيف وكامب ديفيد وهم يعرفون مسبقاً أنها ستفشل؛ صدّقوا مبادرة كيري وهم يعلمون عبثيتها؛ وثقوا بأنّ التطبيع السعودي–الإسرائيلي قريب وهم يدركون أنه مؤجّل إلى أجل غير مسمّى. لقد كانوا يعرفون ولا يعرفون في الوقت ذاته. وكما كتب جورج أورويل في روايته 1984: "الماضي مُحِي، والمحو نُسي، والكذبة أصبحت حقيقة". الدليل يدحض الإيمان، ومع ذلك يظل الإيمان قائماً.
حدود القوة
في مرحلة ما، تحوّلت الولايات المتحدة في تعاملها مع الشرق الأوسط إلى ما يشبه "ديانة التفاؤل": تتبنى أيديولوجيا التمنّي، تكرر كلمات فارغة، وتطلق مزاعم تكذبها الوقائع بسهولة. يصعب تحديد تاريخ دقيق لهذه اللحظة، لكن يسهل تبيان السبب المرجّح: فقد أصبح هذا السلوك عادة متجذّرة لا تنفصل عن تآكل النفوذ الأميركي وتراجع قدرته.
لا طرف يضاهي الهيمنة العسكرية أو الاقتصادية الأميركية، لكن عدداً متزايداً من الشركاء والأعداء في الشرق الأوسط تعلّموا تجاهلها. الولايات المتحدة، بكل جبروتها، كانت تُواجَه بالرفض مراراً من إسرائيل، وأحياناً حتى من الفلسطينيين، ولم تفعل سوى أن تشهد على إحراجها الذاتي. وإذا كانت القوة هي القدرة على تجاوز حدود الإمكان الموضوعي والتأثير في سلوك الآخرين، فإن ما حصل كان عكس ذلك تماماً. مأساة "عملية السلام" الإسرائيلية–الفلسطينية ليست خطأ واشنطن وحدها، لكن يصعب تخيّل فجوة أوسع بين القدرة والإنجاز. المتنمّر بات متنمَّراً عليه، ولم يفعل شيئاً حيال ذلك.
في أماكن أخرى، من أفغانستان إلى العراق، أظهرت الولايات المتحدة أنها لا تعرف كيف تخوض حرباً، فضلاً عن أن تربحها. آلاف الأميركيين ومئات آلاف الأفغان والعراقيين فقدوا حياتهم. انتهت حرب العراق بسلطة ميليشيات وحكومة مدعومة من إيران، وانتهت حرب أفغانستان بعودة طالبان إلى الحكم بعد انسحاب أميركي مُذلّ.
كما أثبتت واشنطن أنها لا تحسن إدارة السلام أيضاً. في المنطقة كلها، عانقت الطغاة، ثم وبّختهم، ثم عادت فاحتضنتهم من جديد. سعت إلى تشجيع انتقال ديمقراطي في مصر عام 2011، فانتهى المشهد بقيام سلطة أشد قمعاً من تلك التي ساهم الأميركيون في إسقاطها. في ليبيا، أمر أوباما بضربات أطاحت بمعمّر القذافي، فجاءت النتيجة حرباً أهلية، فوضى، انتشار ميليشيات مسلّحة، وتدفّق السلاح عبر أفريقيا واللاجئين نحو أوروبا. كان يأمل أن تنجح العملية، ثم وصفها لاحقاً بأنها "عرض بائس" (shit show) وقد أصاب في جانب واحد على الأقل. وفي سوريا، تكررت القصة: الاستثمار الأميركي في المعارضة المسلحة أطال أمد الحرب الأهلية، شجّع التدخلين الإيراني والروسي، وفشل في إسقاط النظام. كثير من الأسلحة التي أرسلتها واشنطن وقعت في أيدي جماعات جهادية، فاضطرت لاحقاً لمقاتلتها.
في هذه الحالات وغيرها، سلكت انتفاضات العرب مساراً مظلماً وقبيحاً. حين انطلقت، تحدث أوباما عن "وقوف أميركا في صف التغيير" وأنها على "الجانب الصحيح من التاريخ". لكن التاريخ لم يعبأ. في كل مرة، اصطدمت الأوهام بالوقائع، وأظهرت الولايات المتحدة جهلاً مدهشاً بدروس تاريخها في الشرق الأوسط: الغرور المفرط؛ حدود القوة؛ صلابة الأنظمة القائمة؛ عدم موثوقية الشركاء المحليين الذين يطلبون الدعم الأميركي لكنهم يتجاهلون نصائحه؛ الارتداد الخطير لدعم جماعات مسلحة لا تعرف عنها واشنطن الكثير ولا تسيطر عليها؛ انجذابها المتكرر إلى منطقة أقسمت مراراً أنها ستفكّ ارتباطها بها. باختصار: زواج بين نزعة أميركية لا تُقاوَم للتدخّل وبين جهل عميق بخصوصيات المنطقة.
حتى عندما تحققت نتائج كانت واشنطن تسعى إليها، لم تكن بفضلها. سنوات من محاولات ضرب الحركات المسلحة الإقليمية—حزب الله، الميليشيات العراقية، الفصائل الفلسطينية، الحوثيين—لم تُضعف تأثيرها. عانت هذه القوى من الضربات، لكنها عادت أقوى، مغتنمة المحنة. الضربة الحاسمة أتت على يد إسرائيل في أيلول / سبتمبر 2024 حين وجّهت ضربة قاصمة لحزب الله. وبعد أشهر، حين فرّ الأسد من دمشق وانفرط نظامه، كانت الولايات المتحدة قد استسلمت لقناعة ببقائه، وبدأت تفكّر في تحسين العلاقات معه. فإذا بها تشاهد مذهولةً جماعةً كانت تُصنّفها "إرهابية" تطيح بالنظام بسرعة، وتتحوّل في عيون الأميركيين من جهاديين إلى "رجال دولة".
مع كل فشل، كانت تولد كذبة جديدة لتغذّي دبلوماسية واشنطن في الشرق الأوسط. في أفغانستان، استمرّت في ترديد أن "النصر وشيك" حتى انتهت بالهزيمة. وهي تزعم أنها تناضل من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان بينما تتحالف مع أنظمة تستبدّ وتخرق تلك الحقوق. وهي تؤكد أن الضغط قادر على كبح برنامج إيران النووي، لكن كلما زاد الضغط، زاد التمرّد الإيراني.
الأغرب من ذلك، أحياناً يجتمع الادعاء والاعتراف في الوقت نفسه. أوباما قال علناً، وهو يسلّح المعارضة السورية: "هذا الديكتاتور سيسقط". ثم اعترف لاحقاً أن الاعتقاد بأن مجموعة من "الأطباء والمزارعين والصيادلة السابقين" ستسقط جيشاً منظّماً كان ضرباً من الخيال. إدارة بايدن شجبت انسحاب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران، لكنها في الوقت نفسه تباهت بأنها لم ترفع عقوبة واحدة بل أضافت المزيد، وأعلنت أنها ستضاعف الضغط الذي اعترفت بعدم فعاليته. وبايدن نفسه، حين سُئل عن ضرباته ضد الحوثيين، قال: "هل توقف الحوثيين؟ لا. هل ستستمر؟ نعم". كانت الكلمات بليغة بقدر غموضها.
كلما فقدت واشنطن القدرة على التحكم في الأحداث، ازدادت ثرثرةً عنها. ما تخسره من نفوذ تعوّضه بالضجيج. تُخفي العجز بالبلاغة، والفشل بالثرثرة. أما القوة الحقيقية فهي هادئة. هذا الانفصال بين الأقوال والوقائع لا يُفهم إلا بوصفه مؤشراً على نهاية مرحلة: حنين قوة عظمى إلى زمن كانت فيه تُرغم الجميع على إرادتها؛ نظام حوافز يعاقب التشاؤم لأنه يشكك في "المهمة الأميركية"، ويكافئ التفاؤل لأنه يوهم بالعظمة؛ أو أملٌ بأن التكرار المَرَضيّ للتفاؤل سيحوّل الأوهام إلى واقع.
العودة إلى الواقع
كيف استقبل العالم العربي إعادة انتخاب ترامب عام 2024 كان كاشفاً للغاية. فبحسب كل المقاييس، كان يفترض أن يكون مكروهاً أكثر من أي رئيس آخر: في ولايته الأولى، انحاز كلياً لإسرائيل، نبذ مسلّمات "عملية السلام" واعتبرها خرافات، بل دعا نتنياهو علناً إلى "إنهاء المهمة" في غزة. أي تنديد أخلاقي خجول قد يطلقه مسؤولو بايدن على سلوك إسرائيل لم يجد مكاناً في فريق ترامب. ومع ذلك، في أركان كثيرة من الشرق الأوسط، ساد شعور بالارتياح أكثر من اليأس لرحيل نهج بايدن (وامتداداً نهج أوباما).
التفسير الشائع بأن "المستبد يحب المستبد" لا يكفي. فبايدن لم يكن مناضلاً حقيقياً من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان. ما رفضه قادة عرب وكثير من شعوبهم كان "الغرور الأخلاقي" لواشنطن: تعاطف أجوف، قناعات بلا شجاعة. ما لم يحتملوه كان الأكاذيب. إن لم تكن تنوي فعل شيء للفلسطينيين، فلا تدّعِ أنك تكترث. مع ترامب، على الأقل، كانوا يظنون أنهم يعرفون ما سيحصلون عليه، حتى لو لم يعجبهم. رأوا فيه زعيماً بلا بوصلة أخلاقية، مرتاحاً في استخدام القوة بلا مواربة. لم يثرثر عن "حل الدولتين" الوهمي؛ كان يقصد ما يقول عن أن "كل الخيارات مطروحة" بشأن إيران؛ وعندما سمح بمحادثات مع حماس، تخلّى عن مسرحية "مقاطعة" الجهة الوحيدة القادرة على تقرير الحرب والسلام فلسطينياً. إلى أي حد يمثّل ذلك قطيعة حقيقية مع الماضي؟ هذا ما سيظهر لاحقاً. لكن بعد سنوات من التظاهر والوعظ الكاذب، بدا الصِّدق الفجّ والواقعية الصارمة كنسمة هواء منعشة.
على مدى عقود، شيدت الولايات المتحدة "كوناً موازياً". كونا تتحقق فيه الكلمات المبتهجة، وتنتج الأفعال نتائجها الموعودة. تُحوّل فيه مهمتها في أفغانستان إلى ديمقراطية حديثة، وتصمد قواتها الحليفة أمام طالبان. تُفضي فيه العقوبات الاقتصادية إلى التغيير السياسي المنشود، وتروض الحوثيين، وتوقف تقدّم إيران النووي. تخوض فيه واشنطن "صراعاً حاسماً" بين قوى الديمقراطية والأنظمة الاستبدادية. يمثّل فيه "المعتدلون" الفلسطينيون شعبهم، ويُصلحون السلطة، ويخفّفون مطالبها؛ ويقود فيه "الوسط الإسرائيلي" المعقول البلاد بفضل دفع أميركي لطيف، ليقبل انسحابات إقليمية جوهرية ويمنح الفلسطينيين دولة حقيقية. كون يكون فيه وقف إطلاق النار في غزة قاب قوسين، والعدالة الدولية عمياء، والمعايير المزدوجة الأميركية لا تدنّس النظام الدولي.
ثم هناك الكون الحقيقي، بكل دمائه ولحمه وكذبه.
المصدر: فورين آفيرز - Foreign Affairs
الكاتب: غرفة التحرير