يأتي تهجير سكان حي السومرية في دمشق، ومعظمهم من العائلات العلوية الفقيرة، كواحدة من أبشع صور "سياسة الإلغاء" التي تمارسها مجموعات مرتبطة بالسلطة السورية الجديدة أو منفذين محميين. فالمسألة لا يمكن تصنيفها على أنها نزاع عقاري أو مشروع تنظيمي، بل تأخذ شكلاً أعمق: إلغاء وجود شريحة اجتماعية كاملة من دمشق، عبر طردها من بيوتها تحت شعارات فضفاضة لكن مضمونها طائفي صريح "لا نريد علويين بيننا". وقال مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبد الرحمن إن عناصر من قوات الأمن قامت في حي السومرية بدمشق بتهجير أبناء من الطائفة العلوية والقيام بسلسلة اعتقالات وإجبار رجال من المنطقة على المغادرة. هذا الفعل لا يمكن فصله عن المنهج المتبع حالياً في سوريا من قبل أحمد الشرع، والذي يقوم على استخدام أدوات العنف والإكراه لإعادة تشكيل الخريطة السكانية وفق ما يهواه النظام الجديد، بما يخدم مصالح ضيقة لطبقات متنفذة، ويحقق هدفاً سياسياً أبعد بإفراغ العاصمة من تعدديتها وتحويل سكن الأقليات إلى مناطق معزولة محاصرة وبعيدة.
يبدو أن عمليات التهجير في السومرية ليست مجرد إجراءات تنظيمية لإعادة توزيع الأراضي أو تنظيم العشوائيات كما ادعى المسؤولون، بل هي جزء من سياسة أوسع يقوم بها النظام الجديد تستهدف تقليص حضور بعض الأقليات داخل دمشق. حيث يشكل العلويون في هذه المنطقة مكوّناً ديمغرافياً متماسكاً، وربما يُنظر إليهم من قبل السلطة الجديدة ككتلة قد تمثل استقلالية أو نفوذاً محلياً لا يتماشى مع رؤية النظام لإعادة تشكيل المدينة وفق مصالحه السياسية والأمنية. من خلال تهجيرهم يتم إرسال رسالة مزدوجة: أولها أن أي مجموعة لا تتوافق مع السلطة أو لا تخضع بالكامل لآلياتها ستتعرض للإقصاء، وثانيها تعزيز التبعية والخضوع للأقليات الأخرى، ما يخلق بيئة سياسية واجتماعية مطواعة. بهذا المعنى، فإن عمليات الطرد في السومرية تعكس استراتيجية ممنهجة للإلغاء والهيمنة على المكوّنات الطائفية، وليس مجرد تنظيم عمراني أو حماية أمنية، إذ تساهم هذه السياسة في إذلال السكان وإضعاف حضورهم الاجتماعي والسياسي، بما يضمن للسلطة الجديدة التحكم في النسيج الديمغرافي وتوجيهه بما يخدم أهدافها على المدى الطويل.
تهجير بالإكراه
بلغ عدد العائلات التي هجرت من حي السومرية في ريف دمشق نحو 1400 عائلة علوية، وسط تدخل أكثر من 600 عنصر من الأمن العام السوري، فيما يشير التقرير إلى أن الحي يضم نحو 10 آلاف نسمة، نصفهم يمتلكون مستندات قانونية لملكية منازلهم. فيما اتبعت السلطة الجديدة سياسة ضغط نفسي وقسري مزدوج، شملت منح مهل زمنية قصيرة جداً (48–72 ساعة) لإخلاء المنازل، مرفقة بالتهديدات، اقتحام المنازل، مصادرة بعض الممتلكات، وإجبار السكان على تسليم مفاتيح بيوتهم، إلى جانب اعتداءات جسدية وإهانات شملت النساء، ما جعل السكان يعيشون حالة رعب مستمرة. ويقول المحامي علي بركات، "التطهير مستمر لطرد 10 آلاف عائلة علوية لتصبح دمشق من لون واحد تمهيدا لتقسيم سوريا الى 4 كانتونات سني، درزي، كردي، علوي".
أغلب الأهالي أجبروا على مغادرة منازلهم تحت ضغط الخوف والتهديد المباشر، إذ أشار بعضهم إلى أنهم خرجوا لأنهم لم يجدوا خياراً آخر، بينما بقي آخرون ممن لم يكن لديهم القدرة المادية أو بدائل سكنية محتجزين في منازلهم. ويمكن القول إن الخوف والضغط النفسي كانا الأداة الرئيسية لإخضاع السكان للتهجير، وليس أي قرار طوعي أو اتفاق، ما يعكس الطابع القسري لهذه السياسة وأهدافها الإدارية والسياسية ضمن ما يُعرف بـ "سياسة الإلغاء".
التأثير على الأقليات
يترك تهجير العائلات العلوية من حي السومرية أثراً نفسياً واجتماعياً واسع النطاق على باقي الأقليات في دمشق، خصوصاً العلويين والشيعة والدروز. وترسل هذه العمليات رسالة تهديد واضحة لكل من يقيم في أحياء مماثلة، بأن وجودهم أصبح مشروطاً بالانصياع للسلطة الجديدة، وأن أي مقاومة أو تحفظ قد يؤدي إلى الإخلاء القسري. كما يولد هذا التهجير حالة من الذعر وعدم الثقة تجاه الحكومة والسلطات الأمنية، ما يدفع بعض السكان إلى البحث عن حماية بديلة أو مغادرة منازلهم قبل أن يُفرض عليهم ذلك، وهو ما يزيد من هشاشة الأوضاع السكانية والاجتماعية في الأحياء المختلطة حيث يصبح الجار يخاف من جاره إذا كان من طائفة مختلفة.
إضافة إلى ذلك، فإن هذه السياسات تُحدث تغيّراً ديمغرافياً مقصوداً، من شأنه أن يضعف التمثيل السياسي والاجتماعي للأقليات ويجعلها أكثر عُرضة للتهميش والإقصاء، إضافة لذلك، فإن هذه الممارسات تولّد حالة انقسام داخلي عميق بين المجتمعات، وتغذي التوترات الطائفية والفتن التي يمكن أن تتحول لاحقاً إلى صراعات مفتوحة، وهو ما يهدد الاستقرار الطويل الأمد في دمشق وغيرها من المدن المختلطة. وبذلك تكون سلطة الشرع تعمل على التفكيك وليس الترميم بعكس ما تدعي وتترك وراءها إرثاً من التناحر بين أبناء البلد الواحد.
الكاتب: غرفة التحرير