في صباح اليوم التالي لاغتيال ستة صحافيين في غزة بتاريخ 10 آب/ أغسطس 2025، كشف الصحافي الاستقصائي الإسرائيلي يوفال أبراهام عن مفاجأة مدوية عندما كشف عبر منصة "X" عن وجود وحدة سرية أنشأها الجيش الإسرائيلي عقب أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، عُرفت باسم "خلية إضفاء الشرعية". وقد نشر أبراهام لاحقاً تحقيقاً مفصلاً على موقع "+972" يوم 14 آب 2025، سلّط فيه الضوء على طبيعة هذه الخلية وأهدافها وأبرز أنشطتها الدعائية.
يُعرّف أبراهام هذه الخلية بوصفها جهازاً استخباراتياً – إعلامياً وظيفته الأساسية جمع المعلومات الاستخباراتية وتحويلها إلى أداة دعائية تخدم الدعاية الإسرائيلية، وتحديداً "الهاسبارا" الموجّهة للرأي العام الدولي. لم تُنشأ هذه الوحدة لخوض عمليات عسكرية مباشرة، بل لتصميم روايات سياسية وإعلامية تبرّر الحرب على غزة، وتمنح إسرائيل غطاءً أخلاقياً وسياسياً لاستهداف المدنيين، الصحافيين، والمرافق الحيوية.
تهدف "خلية إضفاء الشرعية" إلى بناء سرديات دعائية تسوّغ الجرائم العسكرية وتُضعف الرواية الفلسطينية، عبر رفع السرية عن معطيات منتقاة بعناية وتقديمها كأدلة دامغة، رغم هشاشتها أو تناقضها. ويمكن تلخيص مهامها في خمسة محاور: أولاً، صناعة خطاب دعائي يبرر استهداف المدنيين والصحافيين. ثانياً، تحسين صورة إسرائيل في الإعلام الغربي وتخفيف الانتقادات الدولية. ثالثاً، تشويه صورة الفصائل الفلسطينية من خلال الترويج لمزاعم استخدامها المدارس والمستشفيات لأغراض عسكرية. رابعاً، تبرير استهداف الصحافيين عبر إلصاق تهم بالانتماء إلى حماس. خامساً، إضعاف الجهاز السلطوي المدني في غزة، خصوصاً الشرطة، عبر محاولة ربطها مباشرة بهجوم السابع من أكتوبر.
إن الغاية العليا لهذه الأهداف تكمن في تعزيز شرعية إسرائيل الدولية لإطالة أمد الحرب، وضمان استمرار الدعم العسكري الغربي، لا سيما الأميركي، بعيداً عن الضغوط الحقوقية أو السياسية. وفي هذا السياق، يشير أبراهام إلى أن ما تقوم به الخلية هو جزء من "حرب الروايات وحروب المعلومات"، حيث يتداخل الاستخباراتي بالعسكري ويتشابك مع الإعلامي لإنتاج سردية بديلة عن الواقع.
أول اختبار عملي لهذه الوحدة كان عقب استهداف المستشفى الأهلي المعمداني في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، حين سارعت المؤسسات الصحية الفلسطينية إلى الإعلان عن مجزرة أودت بحياة أكثر من 500 شخص نتيجة قصف إسرائيلي مباشر. عندها، دفعت إسرائيل برواية بديلة قائمة على تسجيل صوتي زعمت أنه بين عنصرين من حماس يتبادلان الاتهام للجهاد الإسلامي بإطلاق صاروخ سقط بالخطأ. رغم الشكوك الكبيرة التي أحاطت بالمقطع، نجحت الخلية في تحقيق اختراق مهم، إذ دفعت بعض وسائل الإعلام الدولية إلى التراجع عن تغطيتها الأولية، وهو ما أضعف مصداقية السردية الفلسطينية في لحظة حساسة.
استهداف الصحافيين وتوظيف الأكاذيب الدعائية
أبرز ما كشفه التحقيق يتمثل في الدور المحوري الذي لعبته "خلية إضفاء الشرعية" في تبرير اغتيال الصحافيين الفلسطينيين. فالهجوم على الإعلام لم يكن عملاً عرضياً، بل خُطط له ضمن استراتيجية متكاملة تهدف إلى إسكات الشهود وتقويض الثقة بتغطياتهم.
من الأمثلة الفاضحة، قضية الصحافي إسماعيل الغول الذي استُشهد في 31 تموز/ يوليو 2024 أثناء تغطيته الميدانية في غزة. بعد شهر، أصدر الجيش الإسرائيلي بياناً زعم فيه أنّ الغول كان عنصراً في وحدة النخبة التابعة لحماس، مستنداً إلى وثيقة مؤرخة عام 2021. غير أن التدقيق في الوثيقة كشف تناقضاً صارخاً، إذ منحت الغول رتبة عسكرية في العام 2007، عندما لم يتجاوز العاشرة من عمره، ما يفضح زيف الادعاء الإسرائيلي وفبركة الأدلة المستخدمة لتبرير اغتياله.
قضية أخرى تتعلق بالصحافي أنس الشريف مراسل قناة الجزيرة، الذي استُشهد مع خمسة من زملائه في 10 آب/ أغسطس 2024 إثر قصف ساحة مستشفى الشفاء. قبل ذلك بشهرين فقط، حذرت لجنة حماية الصحافيين (CPJ) من تعرض الشريف لحملة تشويه منظمة. وقد ارتبطت تلك الحملة بتغطية مؤثرة قدّمها الشريف لأزمة الجوع في غزة، حيث ظهر باكياً في مقطع انتشر على نطاق واسع. ردّ المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيحاي أدرعي حينها بسلسلة مقاطع يتهم الشريف بالمشاركة في "حملة تجويع كاذبة"، ليُستشهد بعد أسابيع في غارة بررها الجيش لاحقاً بوجود "معلومات استخباراتية رفعت عنها السرية" تربطه بحماس. هذه الحادثة عكست بوضوح كيف جرى استهداف الصحافيين ضمن استراتيجية متعمدة تسبقها حملات دعائية تمهيدية.
ويشير التحقيق أيضاً إلى أن شعبة الاستخبارات العسكرية "أمان" أنشأت خلال العامين الأخيرين فرق بحث متخصصة حملت اسم "كشف أكاذيب حماس". هدف هذه الفرق كان تصوير تقارير الصحافيين المحليين والدوليين على أنها امتداد دعائي لحماس، وليس تغطية مهنية مستقلة، في محاولة لنزع المصداقية عن الشهود الميدانيين.
في المحصلة، فإن "خلية إضفاء الشرعية" تمثل أحد أخطر أوجه الحرب الإسرائيلية على غزة، لأنها لا تكتفي باستخدام القوة العسكرية، بل تسعى إلى تزييف الحقائق، وتقديمها للمجتمع الدولي في قوالب دعائية مدروسة. عبر هذه الأداة، يتحول الاغتيال إلى "عمل مشروع"، والمجزرة إلى "حادث عرضي"، وتُصوَّر الضحية على أنها "مقاتل متخفٍ". إنها الحرب الخفية التي لا تُخاض بالسلاح وحده، بل بالكلمة والصورة والمعلومة المنتقاة، في محاولة لإقناع العالم بشرعية حرب الإبادة.
الكاتب: غرفة التحرير