منذ اللحظة الأولى التي أعلنت فيها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) موافقتها على المقترح الجديد الذي حمله الوسطاء المصريون والقطريون، بدا المشهد كأنه انقلب رأساً على عقب. لم يكن نتنياهو يتوقع أن الحركة ستقبل بما كان يعتبره "شروطاً تعجيزية" وضعت أساساً لتعطيل أي اتفاق، فإذا بها اليوم تضعه في الزاوية الحرجة: إمّا أن يوافق، فينكشف أمام جمهوره بأنه قد تراجع تحت ضغط الميدان والسياسة، وإمّا أن يرفض، فيتحمل وحده مسؤولية استمرار حرب الإبادة على غزة، بكل ما تحمله من أكلاف إنسانية وسياسية وأمنية.
لماذا أربكته موافقة حماس؟
لأن الحركة بدت في هذه الجولة أكثر نضجاً سياسياً وصلابة تنظيمية. لم تعد وحيدة في القاهرة، بل اصطحبت وفداً موسعاً من الفصائل الفلسطينية، ما جعل موقفها مشتركاً جامعاً، وحصّنها من أي اتهام بأنها تفرط أو تساوم منفردة. الأهم من ذلك أنّ حماس لم تُظهر موافقة "مستسلمة"، بل قدّمتها باعتبارها خياراً واقعياً لحماية المدنيين الفلسطينيين الذين يواجهون خطر الإبادة والتهجير، فحوّلت قرارها من تنازل إلى مسؤولية وطنية.
واللافت أن المقترح الجديد، خلافاً لما روّجت له "إسرائيل" في مراحل سابقة، لم يتعرض إطلاقاً لسلاح المقاومة، ولا لوجودها في غزة. هذا وحده كافٍ لتأكيد أن صمود الميدان فرض معادلة مختلفة: أي اتفاق لن يمرّ على قاعدة نزع سلاح المقاومة أو تصفية حضورها السياسي. وهنا مكمن الإرباك بالنسبة لنتنياهو، الذي وعد جمهوره أكثر من مرة بأن غزة ستكون "منزوعة السلاح وخالية من حماس".
احتمالات الموقف "الإسرائيلي"
ثمة ثلاث احتمالات رئيسية أمام نتنياهو:
- القبول التكتيكي: وهو الاحتمال الأرجح، حيث يقبل بالمقترح تحت عنوان "استعادة الأسرى" وتوفير هدنة مؤقتة لمدة 60 يوماً. هنا سيكون بوسعه الادعاء أمام جمهوره أنه أنجز مكسباً سياسياً داخلياً، يخفف الضغط الشعبي والإعلامي، ويمنحه وقتاً إضافياً لإعادة ترتيب أوراقه استعداداً للمرحلة المقبلة، بما في ذلك حلمه المعلن باحتلال غزة المدينة.
- الرفض الصريح: وهو خيار مكلف جداً، إذ سيعني أن "إسرائيل" رفضت اتفاقاً تدعمه واشنطن والقاهرة والدوحة، وتبنّته حماس والفصائل الفلسطينية مجتمعة. عندها ستزداد عزلة "إسرائيل"، وسيتضاعف الضغط الدولي عليها، خصوصاً أن المجازر التي ترتكبها في غزة باتت مكشوفة للرأي العام العالمي، فيما يلوّح الداخل "الإسرائيلي" بعصيان مدني وانتخابات مبكرة.
- المماطلة والمناورة: أي أن يترك الباب موارباً، من دون قبول أو رفض، بهدف امتصاص الضغط وإظهار أنه "يتحكم" بإيقاع المفاوضات. غير أن هذا الخيار يحمل في طياته خطراً أن يُفسَّر بأنه ضعف، وأنه غير قادر على اتخاذ قرار حاسم.
القوة الحقيقية في يد من؟
تقول "إسرائيل" إنها صاحبة اليد العليا، بفضل تفوقها العسكري الكاسح. لكن الواقع الميداني على الأرض يروي قصة أخرى: "الجيش الإسرائيلي"، على الرغم من قصفه التدميري واستخدامه كل أنواع الأسلحة، لم يستطع حسم المعركة ولا القضاء على المقاومة. اليوم، وبعد ما يقارب 700 يوم من الحرب، ما تزال حماس قادرة على فرض شروط تفاوضية من موقع الندية. قبولها بالمقترح الجديد لم يأتِ من ضعف، بل من إدراك أن حماية المدنيين جزء أساسي من معركة التحرر الوطني، وأن الصمود السياسي لا يقل أهمية عن الصمود العسكري.
دور الوسطاء وتوازنات الإقليم
لا يمكن تجاهل أن اجتماع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع رئيس الوزراء القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني شكّل رسالة واضحة: القاهرة والدوحة، برعاية أميركية، تدفعان نحو تهدئة بأي ثمن، مع التأكيد على رفض التهجير أو إعادة الاحتلال المباشر. هذه النقطة تحديداً تضرب عمق مشروع نتنياهو، الذي كان يبني على فكرة تفريغ غزة من سكانها.
في الوقت ذاته، فإن الموقف العربي والدولي، مهما بدا عاجزاً عن الضغط المباشر، يشكّل غطاءً سياسياً لحماس والفصائل. فحين تصدر موافقة فلسطينية موحدة، مدعومة من وساطة عربية، يصبح الرفض الإسرائيلي مغامرة سياسية قد تفقده ما تبقى من دعم في واشنطن وأوروبا.
ماذا بعد الهدنة؟
الهدنة، إن تحققت، لن تكون نهاية الحرب. بل هي محطة فاصلة ستسمح للطرفين بإعادة التموضع. بالنسبة لحماس، ستعطيها فرصة لترميم أوضاعها الداخلية، وإعادة تنظيم صفوفها، وتثبيت شرعيتها السياسية أمام شعبها والعالم. وبالنسبة لنتنياهو، ستتيح له التقاط الأنفاس وإعادة تحشيد جيشه لمرحلة قادمة من العدوان. لكن الجديد أن أي مرحلة لاحقة لن تنطلق من فراغ، بل من حقيقة أن المقاومة الفلسطينية صمدت، وأن العالم بات يرى في غزة رمزاً للمظلومية والبطولة معاً.
عنجهية نتنياهو تتعرّى
لقد بنى نتنياهو سرديته على خطاب القوة والعنجهية: لا تفاوض إلا بعد القضاء على حماس، لا إطلاق أسرى إلا بعد استسلام المقاومة، لا وقف نار إلا بعد احتلال غزة. لكن موافقة حماس على مقترح مدعوم دولياً جعلته أمام امتحان قاسٍ. فإن قبل، سقطت عنجهيته وانكشف تناقض خطابه. وإن رفض، انقلبت عليه الساحة الداخلية والإقليمية والدولية.
في الحالتين، ربحت حماس جولة سياسية كبرى، وأكدت أن المقاومة ليست مجرد فعل عسكري، بل هي أيضاً قدرة على المناورة والمفاجأة وإدارة الصراع بذكاء. أما نتنياهو، فسيظل يلهث وراء شعاراته، محاصَراً بين عناده الشخصي وضغوط الواقع الذي يفرضه صمود غزة.
الكاتب: غرفة التحرير