بعد كل هزيمة تتلقاها واشنطن ميدانيًا في المنطقة، يتكرر النمط ذاته: انسحاب أو صمت عسكري، يعقبه حراك سياسي وإعلامي يتمحور حول "السلام" و"التطبيع". فشل العدوان الإسرائيلي-الأميركي على إيران، الذي بلغ ذروته بضرب قواعد أميركية مثل "العديد" وتحوّل إلى إحراج استراتيجي لواشنطن، قوبل بحملة دعائية جديدة لـ "تحالف أبراهام". من خلال تصريحات المبعوث الأميركي الخاص إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، بأن بلاده ستصدر في وقت قريب "إعلاناً هاماً" بشأن انضمام دول إلى "الاتفاقيات الإبراهيمية" وتطبيع علاقاتها مع كيان الاحتلال. بالإضافة إلى إعلانات ضخمة في شوارع تل أبيب تظهر فيها وجوه عربية، بينها رئيس الجمهورية اللبنانية جوزيف عون، إلى جانب نتنياهو وترامب، كأنها محاولة مستعجلة لطمس آثار الفشل وتوجيه الأنظار نحو "إنجاز" وطرح بديل. هذا السلوك يعكس عقلية أميركية متكررة لطالما لجأت أميركا إليها للتعويض عن دور معين لها لم تكمله كما ينبغي وهناك العديد من التجارب السابقة التي تحول فيها السلوك الأميركي للتغطية على هزيمة أو فشل.
ففي كل مرة تُصاب فيها واشنطن بنكسة عسكرية أو استراتيجية، تلجأ إلى حيلة دعائية: محاولة التعتيم على الحدث السابق وتقديم "إنجاز" جديد من خلال التطبيع أو طرح الأفكار الداعية للسلام والتقارب.
أمثلة عن التحول
فشل أميركا في العراق
النكسة العسكرية
غرقت الولايات المتحدة في مستنقع المقاومة المسلحة آنذاك وحصل تفكك أمني داخلي وفشلت في تحقيق مشروع "الديمقراطية النموذجية" الذي رُوّج له وزعمت أنها ذهبت إلى العراق لأجل تحقيقه.
رد الفعل
أطلقت إدارة بوش لاحقاً مشروع "الشرق الأوسط الكبير"، الذي ركز على إعادة تشكيل أنظمة الحكم عبر دعم "الإصلاحات السياسية" و"التقارب مع إسرائيل"، ومحاولة كسب الحكومات العربية من خلال برامج تعاون استخباري وأمني، بما فيها الترويج لخيار التطبيع كجزء من الحلول.
"صفقة القرن"
النكسة العسكرية/السياسية:
في نيسان/مايو 2021، خلال العدوان على غزة، عجزت "إسرائيل" (بدعم أميركي كامل) عن تحقيق أي نصر استراتيجي، فيما أظهرت فصائل المقاومة الفلسطينية قدرات صاروخية مفاجئة.
رد الفعل
بعد وقف إطلاق النار، نشّطت إدارة بايدن قنوات التطبيع الخاملة (خاصة مع السودان والمغرب) وظهرت تقارير عن دفع الإدارة نحو "تعميق اتفاقات إبراهام"، في محاولة للتعويض عن صورة الهزيمة. كما تم استئناف الحديث عن مشاريع اقتصادية ثلاثية (إسرائيل-الأردن-الإمارات) لإظهار الاستقرار الإقليمي بقيادة واشنطن..
الفشل في سوريا
النكسة العسكرية
رغم الدعم الواسع للمعارضة المسلحة، فشل المشروع الأميركي في إسقاط النظام السوري آنذاك عام 2012، مع تدخل روسيا وإيران بشكل حاسم. خسرت واشنطن ميدانياً ولم تحقق "الانتقال السياسي" المنشود.
رد الفعل
بدأ حينها الترويج لفكرة "السلام الإقليمي" وتم التسويق "للاعتدال العربي" وبالتالي أي تقارب مع "إسرائيل" يعد اعتدالاً، والبحث عن دول تمثل بديلاً عن سوريا وإيران كالسعودية..
تتعمد السياسة الأميركية والإسرائيلية بث هذه الإعلانات بعد الهزائم، بهدف:
توجيه الرأي العام
عقب أي فشل عسكري كبير – كعدم القدرة على صد الرد الإيراني أو الإخفاق في إخضاع غزة – يتعرض الرأي العام داخل الكيان لصدمة. هنا تدخل أمريكا و"إسرائيل" في مرحلة إعادة توجيه الانتباه. كيف؟
الإعلانات الضخمة، وصورة تحقيق "الاختراقات" الدبلوماسية، وصور الزعماء العرب.
وبدلاً من أن يركز المستوطنون على "كيف فشلنا"، يصبح السؤال: "من الدولة التالية التي ستنضم إلى السلام معنا"؟
امتصاص الغضب
الهزائم تولّد نقمة داخلية، ليس فقط على العدو، بل على القيادة الإسرائيلية نفسها، وأحياناً على الحليف الأمريكي الذي لم يمنع الهجوم.
لهذا، حملات التطبيع تُستخدم كأداة تهدئة سياسية، لتقول: نعم، تلقينا ضربة، لكننا لسنا في عزلة وهناك دولة عربية جديدة تقف معنا.
هذا الخطاب يساعد على تخفيف حدّة الغضب الشعبي، وتقليل الضغط على السياسيين والجنود، ومنح الوقت للنظام لإعادة التموضع دون انهيار داخلي.
ترميم صورة الردع
الردع في نظر الكيان ليس فقط في القدرة على تدمير العدو، بل أيضاً في صورة الهيبة والسطوة السياسية. بعد كل انتكاسة، تصبح الحاجة مُلحّة لإعادة بناء هذه الصورة.
وهنا يُوظف التطبيع بوصفه علامة على، "أن المنطقة ما زالت تحترم إسرائيل". وأن هناك دولاً تُسرع لعقد شراكات معها رغم العدوان.
صناعة إنجاز سياسي بديل
عندما تفشل الأهداف العسكرية – كالقضاء على قدرات وبرنامج إيران، أو استعادة رهائن من غزة – تضطر أميركا إلى صناعة سردية بديلة للتغطية على الفشل.
في ميزان التحولات الجارية، يتضح أن الولايات المتحدة، كلما واجهت مأزقاً عسكرياً في المنطقة، تلجأ إلى أدوات غير تقليدية لتعويض الخسائر وتثبيت حضورها. بمعنى أوضح، التطبيع بات جزءاً من آلية احتواء الأزمات لا حلّها.
الكاتب: غرفة التحرير