الجمعة 14 تشرين ثاني , 2025 03:38

سوريا تحت المظلة الأميركية: قراءة مستقبلية في النفوذ العسكري الأميركي

الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط

شكّل الوجود العسكري الأميركي في سوريا خلال العقد الماضي أحد أكثر الملفات تعقيداً في خريطة الصراعات في الشرق الأوسط، نظراً لارتباطه بمعادلات النفوذ، والسيطرة على موارد الطاقة، وإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية. فمنذ انخراط واشنطن في الحرب على "داعش"، تحوّلت الجغرافيا السورية إلى شبكة قواعد عسكرية مترابطة، أُديرت وفق رؤية استراتيجية أوسع من مجرد مكافحة الإرهاب، وصولاً إلى مشهد جديد يزداد فيه النفوذ الأميركي ترسّخاً مع المتغيرات السياسية والعسكرية التي أعقبت العام 2024.

تنشر الولايات المتحدة اليوم أكثر من 128 قاعدة خارجية في 51 دولة، ما يعكس حجم مشروعها العسكري العالمي المبني على عقائد متعدّدة: من دعم الناتو، إلى الحرب النووية الاستباقية، مروراً بحماية المصالح النفطية في الشرق الأوسط. وتزايد هذا الحضور عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، ومع اشتعال الأزمات المتلاحقة في العراق وسوريا. وقد مثّل غزو العراق للكويت عام 1991 نقطة التأسيس لعودة أميركا الميدانية الكثيفة إلى المنطقة، قبل أن تتوسع لاحقاً تحت ذرائع "أسلحة الدمار الشامل" و"مكافحة الإرهاب".

مرحلة ما بعد الانسحاب من العراق وولادة "داعش"

خروج القوات الأميركية من العراق عام 2011 لم يكن نهاية النفوذ، بل بداية مرحلة جديدة أكثر وحشية، إذ ظهرت تنظيمات جهادية اعتمدت على إرث السجون الأميركية، وعلى رأسها سجن بوكا، الذي أنتج قيادات "داعش". مثّل هذا التنظيم فرصة مثالية لواشنطن لإعادة الانتشار تحت عنوان الحرب العالمية على الإرهاب. وهكذا أُنشئ "التحالف الدولي" الذي سمح بعودة القوات الأميركية إلى العراق وسوريا والأردن، وتحوّلت الأردن لاحقاً إلى شريك أطلسي وملاذ للنشاطات العسكرية الأميركية.

تثبيت القواعد الأميركية في سوريا (2011 – 2024)

بدأ التمركز الأميركي في سوريا عبر قاعدة التنف قرب المثلث الحدودي السوري–الأردني–العراقي، التي شكّلت نقطة ارتكاز استراتيجية و"حزاماً نارياً" بعمق 55 كلم. تحولت القاعدة عملياً إلى منطقة فصل تمنع أي اختراق لمحور المقاومة نحو الحدود العراقية، كما استخدمت ملاذاً آمناً لبقايا "داعش" قبل الانقلاب الشهير في 8 كانون الأول 2024.

بعد سقوط "داعش" في العام 2017، انتقلت واشنطن نحو مرحلة ترسيخ الوجود، فنشرت قواعد عديدة في شرق الفرات، من بينها: رميلان، المالكية، تل بيدر، كونيكو، العمر، الشدادي، التنك، وباغوز فوقاني. كما أسست قواعد في شمال سوريا كعين العرب (كوباني)، تل أبيض، وعين عيسى، بالإضافة إلى نقاط تمركز على الحدود مع تركيا.

تخضع هذه القواعد لمنطقة القيادة الأميركية المركزية CENTCOM التي تتخذ من قاعدة العديد في قطر مقراً متقدّماً، وترتبط مباشرة بالقيادة القتالية المشتركة للولايات المتحدة. هذا الانتشار لم يكن عسكرياً فقط، بل جزءاً من منظومة تحكم سياسي واقتصادي يعيد إنتاج دور أميركا بوصفها الضابط الإقليمي الأول.

سوريا والاصطفاف الأميركي الجديد بعد 2024

شهدت سوريا في 8 كانون الأول 2024 منعطفاً حاداً مع وصول قيادة جديدة أعلنت انفتاحها الواضح على واشنطن، وتبنّيها رواية "التحالف ضد العدو المشترك". وعلى الرغم من تسويق واشنطن لهذا التطور باعتباره خطوة نحو "السلام" ومحاربة تهريب السلاح والمخدرات، إلا أن المؤشرات الأولى – مثل زيارة قائد "سنتكوم" – كشفت أن سوريا أصبحت فعلياً تحت إشراف القيادة الأميركية، سواء في إدارة الحدود، أو ضبط علاقة قوات قسد مع الدولة، أو تنظيم الاشتباكات مع تركيا.

ظهرت كذلك إشارات رمزية – كالصور العائلية للقيادة الجديدة بزيّها العسكري – تؤكّد أن المشهد لم يعد مجرد "تسوية"، بل انتقال نحو نمط حكم مرتبط عضوياً بالاستراتيجية الأميركية في المنطقة.

نحو قاعدة أميركية كبرى قرب دمشق

تشير المعطيات إلى سعي واشنطن لملء "النقطة الفارغة" في خريطتها السورية عبر إنشاء قاعدة كبرى يُرجّح أن تكون في تدمر أو قرب مطار السين في ريف دمشق. ويهدف ذلك إلى:

- حماية النظام السياسي الجديد من أي انقلاب داخلي أو خارجي.

- توفير غطاء دفاعي مباشر للعاصمة دمشق.

- تعزيز شبكة السيطرة على الجغرافيا السورية وربط الغرب بالشرق عبر سلسلة القواعد.

- استخدام القوات الأجنبية الموالية للشرع في عمليات محتملة تمتد إلى العراق أو لبنان بما يخدم المصالح الأميركية.

- التخلص من المقاتلين الأجانب تحت عنوان الحرب على داعش.

- تدريب الكتلة الأويغورية كورقة ضغط ضد الصين.

- توفير دعم استراتيجي للسفارة الأميركية في بيروت على غرار دور قاعدة الأسد في العراق.

- خلق منطقة عازلة جنوبية آمنة تمنح واشنطن ذريعة لاعتراض أي حركة جوية أو برية.

- التحكم بمسار النفط السوري، سواء عبر استخراجه أو إبقائه مجمداً وفق مصالح السوق والطاقة.

إن المشهد السوري بعد 2024 لا يعكس انسحاباً أميركياً كما تروّج واشنطن، بل تثبيتاً أعمق لنموذج الهيمنة عبر شبكة قواعد مترابطة تمتد من التنف شرقاً إلى رميلان شمالاً، وصولاً إلى مشاريع توسّع جديدة قرب دمشق. الهدف النهائي يتجاوز محاربة الإرهاب، ليدخل في إطار إعادة رسم خريطة النفوذ في الشرق الأوسط، وتجفيف مصادر القوة لدى خصوم الولايات المتحدة، وضمان السيطرة على خطوط الطاقة والممرات الحيوية لعقود مقبلة.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور