لا يبدو الاتفاق المعلن بين الولايات المتحدة والجولاني على تفكيك ما تصفه واشنطن بـ "شبكات إرهاب حزب الله وحماس والحرس الثوري الإيراني" خطوة مفاجئة بقدر ما يعكس منطق السياسة الأميركية في تعريف الخصوم والحلفاء تبعاً لمتطلبات المرحلة. فالإدارة الأميركية، التي تمتلك تاريخاً طويلاً من صياغة الإرهاب والمشاركة فيه، والتي دعمت حروباً، وغذت جماعات مسلحة، ومارست سياسات أدت إلى كوارث إنسانية في المنطقة، ليس غريب عليها أن توقع اتفاقية مشتركة مع إرهابي "لمحاربة الإرهاب". ومن هذه الزاوية، يبدو الاتفاق مع الجولاني -القائد السابق في القاعدة- مجرد حلقة جديدة في السلسلة التي تنتجها الإدارة الأميركية.
المعيار الأميركي
لا يحتاج الجولاني إلى سجل تعريف طويل. فالرجل الذي بدأت أولى علامات التطرف تظهر في حياته بعيد أحداث 11 سبتمبر -التي يعتبرها الأميركيون من تنفيذ القاعدة-، ثم التحق بتنظيم الزرقاوي بعد غزو العراق، يُعدّ أحد أبرز الوجوه الإرهابية في سوريا خلال العقد الماضي. حيث قاد جبهة النصرة، وأسس هيئة تحرير الشام، وتورط في انتهاكات صنفتها الأمم المتحدة كجرائم حرب، وسط احتجاجات شعبية شهدتها سوريا آنذاك ضد ممارساته.
لكن هذه السيرة السوداء لا تبدو عائقاً أمام انفتاح واشنطن عليه. فالتعريف الأميركي للإرهاب ليس ثابتاً، بل يتشكل وفق الحاجة السياسية؛ فالجماعة أو الفرد يصبح إرهابياً فقط حين يهدد المصالح الأميركية أو "الحليف الإسرائيلي"، لا حين يهدد المدنيين في سوريا أو العراق -وهو واقعاً لا يهدد إسرائيل بل يمنحها ما لم تقدر عليه منذ زمن-. وهكذا ينتقل الجولاني من خانة الخطير إلى خانة الشريك، ما دام مستعداً لتنفيذ الشروط الأميركية في مشروع إعادة صياغة النفوذ من جديد.
بالتأكيد معيار واشنطن الحاسم في تصنيف الإرهاب هو "إسرائيل". فكل قوة تقاوم الاحتلال الإسرائيلي أو تكسر مشاريعه في المنطقة تُدرج تلقائياً في خانة الإرهاب. واللافت أن هذه الفصائل —حزب الله وحماس وحرس الثورة— تصنف كقوى يجب عزلها وتفكيكها، بينما أنها لا تستهدف المدنيين ولا تقتل الأطفال ولا تمنع الغذاء والدواء كما فعلت إسرائيل في غزة وفوق هذا لم تصنف بأنها إرهابية.
أما الجولاني فلم يطلق طلقة واحدة على "إسرائيل" وهذا هو المطلوب أميركياً -، بل انحصرت عملياته في إثارة الفتن والجرائم داخل سوريا والعراق، وهذا بالطبع ما تحبه واشنطن وترضى به.
سجل دموي
في حين تتجاهل واشنطن تاريخاً طويلاً من دعم الجماعات المسلحة، وتمويل الحروب، وتوفير الغطاء السياسي لـ "إسرائيل" التي نفذت أكبر إبادة جماعية موثقة في غزة. في الأشهر الماضية، كشفت تقارير صحفية عن إرسال قوات أميركية خاصة للمشاركة في عمليات "استهداف مباشرة للمدنيين" خلال توزيع المساعدات الإنسانية على أهل غزة. كما أن واشنطن موّلت الجماعات المسلحة خلال حرب سوريا ثم من أجل تبييض صفحتها قامت بمسرحيات اغتيال قادة القاعدة والقضاء عليهم.
في حين يرى المبعوث الأميركي توم برّاك أن زيارة الشرع إلى البيت الأبيض "نقطة تحول" تنقل سوريا من "مصدر للإرهاب" إلى "شريك في مكافحة الإرهاب". لكن هذا التحول لا ينطلق من إصلاح فعلي قد تم تطبيقه، بل من إعادة تشكيل سوريا كجزء من منظومة إقليمية تقودها واشنطن وتستهدف بالأساس القوى المتحالفة مع إيران.
وهذا ما يدل عليه الاتفاق الثلاثي الذي تحدّث عنه برّاك والذي شارك فيه ماركو روبيو وحقان فيدان وأسعد الشيباني. ما يظهر أن المشروع هو إعادة هندسة التوازنات السورية والتركية والكردية لصالح الاحتلال، عبر دمج قوات سوريا الديمقراطية في بنية النظام الجديد وإعادة تعريف العلاقة مع أنقرة وتثبيت التهدئة مع إسرائيل. أي أن "مكافحة الإرهاب" ليست سوى عنوان براق.
كذلك دعوة الكونغرس إلى إلغاء قانون قيصر ومنح "سوريا الجديدة" فرصة للاندماج الاقتصادي ليست خطوة إنسانية تجاه سوريا وشعبها، بل خطوة في حساب المصالح حيث يراد من خلالها إعادة تعريف الدولة السورية ولكن هذه المرة "كحليف مضاد للنفوذ الإيراني وحزب الله". هكذا يكتمل المشهد الأميركي: الجولاني شريك – لأنه ارتدى ربطة عنق وجلس في البيت الأبيض -. حزب الله إرهابي لأنه دافع عن فلسطين في ظل الخنوع العربي.
الكاتب: غرفة التحرير