لم يكن الحديث حول إقالة مورغان أورتاغوس من منصبها كنائبة المبعوث الأمربكي الخاص إلى الشرق الأوسط، والمسؤولة عن ملف لبنان، قراراً مفاجئاً في سياق إدارة دونالد ترامب. فمنذ عودته إلى البيت الأبيض، دأب ترامب على إجراء تغييرات متكررة في فريقه، يتنقّل فيها بين عزل وترقية، وفق معيار واحد: الولاء والكفاءة في تنفيذ خطته. لكن حالة أورتاغوس تحديداً تخرج من إطار الترفيع، لتدخل في خانة "الإخفاق الوظيفي" سياسياً ودبلوماسياً. فأورتاغوس، التي نشطت بشكل خاص بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في أيلول عام 2024، لم تنجح في تحقيق أي اختراق حقيقي في الملف اللبناني، بل ساهمت، من خلال سلوكها التصادمي مع الأطراف المحلية وتجاوزها للأعراف السيادية، في تعقيد المشهد وإحراج حلفاء واشنطن في بيروت. وبدل أن تساهم في فتح قنوات تواصل أو تمهيد لمسارات ضغط فعّالة، تحوّلت إلى عبء على الفريق الأمريكي. إقالتها جاءت ضمن حملة أوسع يقودها ترامب لإعادة تشكيل الإدارة بما يناسب توجهه الجديد في السياسة الخارجية، وهو ما ظهر أيضاً من خلال الاستغناء عن شخصيات بارزة في مواقع مختلفة، مثل الملياردير إيلون ماسك الذي كان يلعب أدواراً غير تقليدية في قضايا دولية. ويبدو أن البيت الأبيض اليوم يعيش ما يشبه "حملة تنظيف سياسي"، تطال كل من لا يحقق الأهداف، ولو كان عالي الصوت، كثير الحضور.
أورتاغوس في بيروت
منذ تسلّمها ملف لبنان ضمن الفريق الأمريكي الخاص بالشرق الأوسط، حضرت مورغان أورتاغوس إلى بيروت في أكثر من زيارة، لا سيما بعد الحرب التي شنّها كيان الاحتلال على لبنان في خريف عام 2024. لم تكن تلك الزيارات تقليدية بطابعها الدبلوماسي، بل اتّسمت بقدر كبير من التصعيد السياسي والمواقف الاستفزازية، سواء في مضمون الخطابات أو في رمزية الإشارات التي استخدمتها. فقد عُرفت أورتاغوس بلهجتها الحادّة إزاء حزب الله، وبحديثها العلني عن "هزيمته عسكرياً"، وتصريحاتها عن رفضها مشاركة الحزب في أي حكومة لبنانية مستقبلية. هذه التصريحات أحرجت المسؤولين اللبنانيين الذين التقوها، كونها تجاوزت السقف السياسي المتعارف وأظهرت تدخلاً فاضحاً في شؤون لبنان الداخلية. وفي حين كان يُفترض أن تعمل أورتاغوس على إنجاز المخطط الأمريكي المرسوم للبنان بهدوء، اختارت تصعيدا مكشوفاً أثار انزعاج جهات لبنانية رسمية وحتى قوى حليفة لواشنطن. حتى أنها اشتبكت بشكل علني مع النائب وليد جنبلاط على منصة “إكس”، حيث اتهمته بتعاطي المخدرات، ورد بدوره عليها ووصفها حينها "بالأمريكية القبيحة". لذا فمن الواضح أن مهمة أورتاغوس في لبنان لم تجري كما أراد لها ترامب الذي يعتمد "سياسة المراوغة" حالياً.
هل من بديل؟
قرار الإطاحة بمورغان أورتاغوس من ملف لبنان لا يبدو مجرد تبديل في الوجوه، بل يحمل دلالات أعمق تتعلق بتوجهات إدارة دونالد ترامب في ولايته الثانية، وبالتحولات الجارية داخل بنية صنع القرار في البيت الأبيض. فخروج أورتاغوس، المعروفة بخطابها المتشدد وسلوكها التصادمي، يواكبه صعود اسم توماس برّاك، رجل الأعمال المقرب من ترامب، كمرشّح لتولي مهام المبعوث الخاص إلى لبنان، إلى جانب مناصب دبلوماسية أخرى في سوريا وتركيا. برّاك ليس دبلوماسياً تقليدياً. فسجله يتضمن محاكمة مثيرة للجدل على خلفية اتهامه بالعمل لصالح الإمارات دون إبلاغ وزارة العدل الأمريكية، قبل أن تتم تبرئته في نهاية 2022. اختياره لهذا المنصب الحساس يحمل رسائل عدّة، أبرزها: نية ترامب تقليص نفوذ "الدولة العميقة" داخل الأجهزة الأمريكية، من خلال إزاحة وجوه واستبدالها بأشخاص موثوقين سياسياً وشخصياً. هذا التوجه يصبّ في سياق أوسع لحملة "تعزيل" واسعة يقودها ترامب داخل إدارته. في هذا المناخ، يبدو أن تصفية الحسابات داخل الدولة العميقة باتت أولوية، يتداخل فيها العامل الشخصي مع الاستراتيجية السياسية. أما في الشأن اللبناني، فإن استبدال أورتاغوس ببرّاك لا يعني تلييناً في المواقف الأمريكية تجاه حزب الله، لكنه يشير إلى إعادة ضبط في آلية المقاربة: من المواجهة العلنية والفجّة إلى إدارة أكثر براغماتية، تخدم أجندة ترامب الدولية، ولا تتسبب بإحراجات أو نتائج عكسية كما حصل في عهد أورتاغوس.
إقالة لا تنفصل عن المناخ
قد يربط البعض توقيت إقالة مورغان أورتاغوس بالمفاوضات النووية بين واشنطن وطهران، إلا أن هذا الربط المباشر ليس دقيقاً تماماً. فموقع أورتاغوس كنائب المبعوث الأمريكي إلى لبنان ستيفن ويتكوف لا يخولها تأثيراً فعلياً في المسار النووي المعقّد، ولا في صياغة الاستراتيجية الأمريكية تجاه الدول. لكن مع ذلك، يمكن قراءة الإقالة ضمن مناخ أوسع من المراجعات السياسية التي تجريها إدارة ترامب على مقارباتها في المنطقة، خصوصاً في ظلّ محاولات تحقيق توازن بين المصالح مع "إسرائيل" من جهة، ومساعي ترامب لخفض التصعيد وفتح قنوات خلفية مع إيران من جهة أخرى. وفي هذا السياق، يبدو أن ترامب يسعى إلى تخفيف الأصوات الاستفزازية والمواقف الحادة التي قد تعرقل انفتاحاً سياسياً محتملاً. إقالة أورتاغوس، إذاً، لا تعبّر عن موقف جديد من لبنان أو من حزب الله تحديداً، بقدر ما تعكس دينامية داخلية في البيت الأبيض لإعادة تموضع تكتيكي، في ظل محاولة التبدّلات الإقليمية التي يسعى إليها ترامب، ومنها بالطبع الملف النووي.
الكاتب: غرفة التحليل