الأربعاء 08 شباط , 2023 11:55

جذور الثورة الإسلامية في فكر الإمام الخامنئي (5)

السيد كميل باقر زاده

بعد الحلقة الرابعة من سلسلة محاضرات "مفهوم الثورة الإسلامیة في فکر قائدها الإمام السیّد علي الخامنئي"، التي أعدّها المستشار الثقافي للجمهورية الإسلامية الإيرانية في لبنان السيد كميل باقر زاده، والتي خصّ بنشرها موقع الخنادق الإلكتروني. يتحدث السيد باقر زاده في الحلقة الـ 5 عن جذور الثورة وبیئة انطلاقها، بناءً علی آراء وأفکار الإمام الخامنئي.

نص المحاضرة

بشکل عام، بيئة انطلاق الثورات الدینية الأصيلة تشبه بیئة ظهور النبوّات وبعثة الأنبياء علیهم السلام، لأنّ العصر الذي يسبق الثورة هو في الحقيقة عصر جاهلية، وتأتي الثورة في بیئة اجتماعیة مماثلة للبيئة والظروف الاجتماعية التي يُرسل فيها الأنبياء من حیث المعالم والمؤشرات. لذلك يقول سماحة القائد في کتاب "ثورة الأنبیاء" في شرحه لإحدی خطب الإمام أمیر المؤمنین علي علیه السلام حول ظروف المجتمع قُبيل بعثة الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم، یقول سماحته: "عندما کنت أترجم وأشرح هذه الخطبة قبل انتصار الثورة کانت کلّ کلمة أکتبها تنبع من الوجدان والمشاعر، إذ کانت تحکي بالضبط ما کنّا نلمسه ونعانيه. وکان کلّ ما ورد فی هذه الخطبة من کلام حول بیئة ظهور الأنبیاء علیهم السلام ینطبق خطوة بخطوة وکلمة بکلمة علی الأیام التي کنّا نعیشها آنذاك".

المیزة البارزة في فترة ظهور النبوّات هي حاکمية الطاغوت في المجتمع. وحاکمیة الطاغوت علی المجتمع تعني تسلّطه علی جمیع طاقات المجتمع البنّاءة والخلّاقة، (وبالتالي) انجرار المجتمع وقواه واستعداداته نحو أهداف الشیطان وتأمین مصالح الطاغوت. المجتمع الذي یحکمه الطاغوت یعیش حالة العبودیة للشیطان. وحاکمیة الطاغوت في الحقیقة منشأ لجمیع المشاکل والمفاسد ومصدر لجمیع الآلام والمعاناة. والأنبیاء علیهم السلام یأتون في مثل هذه الظروف وشعارهم التغییر؛‌ هم یریدون أن یحوّلوا المجتمع الطاغوتي إلی مجتمع توحیدي. رسالة الأنبیاء علیهم السلام هي صناعة المجتمع الإسلامي، وهذه الرسالة تشمل جمیع قضایا المجتمع مثل الحکومة والاقتصاد والثقافة والعلاقات الدولیة. ولذلك، سماحة القائد في کتاب "مشروع الفکر الإسلامي في القرآن" کان یؤکّد دائماً علی أنّ هیئة المجتمع الطاغوتي وشاکلته تتباین بل تتعارض مع هیئة وترکیبة وشاکلة المجتمع التوحیدي.

هذا الفرق بین هذین المجتمعین مسألة مهمة جداً، وهذا الاختلاف اختلاف بنیوي وأساسي یجب الالتفات إلیه، ولیس مسألة شکلیة وظاهریة وبسیطة. هذا الفرق سیتبیّن لنا أکثر عندما ندرس وبدقّة وضع المجتمع في زمن الجاهلیة ونقارنه بوضع المجتمع بعد تأسیس الحکومة الإسلامية بید الرسول الأعظم صلّی الله علیه وآله وسلّم في صدر الإسلام، وأیضاً عندما ندرس الفرق بین الوضع في إیران قبل انتصار الثورة الإسلامية وبعده.

إذاً رغم أنّنا سندرس في هذه الجلسة بیئة انطلاق الثورة الإسلامیة في إیران کعیّنة بارزة من الثورات الدینية الناجحة إلا أنّ الکلام هو نفسه في جمیع الثورات الإلهیة في الماضي وفي المستقبل، ويمکن تکرار نفس التجربة في أيّ بیئة اجتماعیة مشابهة، لأنّ هذه المسألة من السنن الإلهیة والتاریخیة الثابتة والجاریة في كل زمان ومكان.

حسناً، لدراسة الوضع في مرحلة ما قبل انطلاق الثورة الإسلامیة في إیران ولفهم جذور الثورة وبیئة نشأتها ننظر إلی الموضوع من جهتین؛ أوّلاً ننظر إلی النظام الشاهنشاهي السابق وخصوصیاته وتصرّفاته التي أدّت إلی نهوض الشعب في وجهه، وثانیاً ننظر إلی الشعب ومواصفاته ومؤهّلاته الأساسية التي مهّدت الأرضية للثورة.

بالنظر إلی النظام الطاغوتي، هناك خمس خصوصيات أساسیة وبارزة کانت توجد في ذلك النظام وقد بیّنها سماحة الإمام الخامنئي:

الخصوصية الأولی حسب تعبیر القائد عبارة عن "الدکتاتوریة السوداء" والقمع الشدید للناس بأقسی الأسالیب. كانت إحدى خصوصيات ذلك النظــام الخبيــث الشــدة والقسوة في التعامل مع كل من کان له أدنی اعتراض عليه حتى لو كانت الانتقادات بسيطة جدّاً. كانوا يحكمون بقوة الاستبداد والسجون والتعذيب والضغط النفسي والجسدي على الناس. ولا تزال آثار ووثائق تلك السجون وتلك الأساليب القمعية التي اعتمدوها موجودةً، وقد أصبحت بعض تلك السجون متحفاً لاستعراض التاریخ، وعندما یزورها الشباب الذین لم یعیشوا تلك الفترة ربّما لا یصدّقون حجم الظلم والتعذیب والقسوة التي کان یمارسها النظام الطاغوتي آنذاك.

الخصوصية الثانية هي "التبعية الذليلة" التي كانت لهم تجاه القوى الخارجية. أصلاً لقد وصل رضا خان إلى الحكم بأمر من البريطانيين، وأزيل عن الحكم بأمر من البريطانيين، وبعد ذلك جاء البريطانيون بمحمد رضا بهلوي إلى الحكم. ثمّ دخل الأمريكيون ساحة السياسة الإيرانية وسيطروا على كلّ شيء فيها. كانت السياسات في إیران سياسات أمريكا، وكان ما يحصل في إیران هو ما كانت تقتضيه مصالح أمريكا وما يراه الأمریکيون لازماً ومناسباً، سواء على صعيد السلوك الداخلي، أو السلوك الإقليمي، أو السلوك الدولي. یعني ذلك النظام المستبد الظالم الذي کان یتعامل مع شعبه بمنتهی القسوة کان ذلیلاً وخاضعاً وتابعاً وخانعاً ومطیعاً ومذعوراً أمام أمریكا. هکذا کان الوضع!

الخصوصية الثالثة لنظام الطاغوت هي "الفساد المستشري". کان نظاماً فاسداً ومفسداً، یعني کان یروّج الفساد. في ذلك النظام كانت تحصل وتحدث أنواع المفاسد، من المفاسد الجنسية إلى غيرها من الفساد المالي والإدمان على المخدرات وترويج المخدرات، وکلّها کانت تحدث بواسطة عناصر وشخصیات فاعلة وأساسية في نظام الحكم. كان جميع رجال البَلاط تقريباً والمحيطون بهم واقعين في المفاسد، وقصص هذه الأمور مخجلة. والكثير من أبناء الشعب في ذلك الحين كانوا يعلمون هذه القصص لکنّهم لم یکونوا يتجرأون على التفوّه بها. لقد قام نفس محمّد رضا بهلوي والمحيطون به بارتكاب أضخم عمليات الفساد المالي واسوأ أنواع التطاول والنهب للمصادر الماليّة للشعب. لقد جمعوا الثروات لأنفسهم، وكان الثمن إفقار الشعب.

الخصوصية الرابعة للنظام الطاغوتي هي "عدم الاکتراث للناس". کان النظام منقطعاً تماماً عن الشعب، ولم یکن لدیه أي اهتمام بالناس وبهموم الناس وبمشاکل الناس، ولم یکن يحسب للناس أي حساب أصلاً. الشعب لم یكن یعلم أصلاً من هو على رأس الأمور، ولم یکن للناس أيّ دور في انتخاب المسؤولین وفي تحديد السیاسات والاتجاهات العامة، بل إنّ الصلة بين جماهير الشعب ونظام الحكم كانت مقطوعة تماماً. أولویات النظام واهتماماته وهواجسه ومخطّطاته وبرامجه کانت في مكان، وأولویات الناس وآلامهم وهواجسهم وحاجاتهم کانت في مکان مختلف کلّیاً! لذلك من المعروف أنّ محمد رضا بهلوي في البداية تفاجأ عندما واجه اعتراض الشعب، ولم یکن لدیه أدنی تصوّر عن سبب هذا الاعتراض. یعني أنّهم کانوا بعیدین عن الشعب وآماله وآلامه إلی هذا الحدّ.

الخصوصية الخامسة لنظام الطاغوت عبارة عن "تضخيم الغرب وإشاعة عقدة الدونية الوطنية". من جهة، أهانوا الشعب واستهانوا بقدراته، ومن جهة أخری ضخّموا الثقافة الغربية وروّجوا لنمط الحیاة الغربي وللقيم المادية الغربية. الأعمال العلمية لم تكن تتقدم والتحرك العلمي بالمعنى الحقيقي للكلمة لم يكن موجوداً أصلاً. في وسائل الإعلام كانوا قد عوّدوا الناس على المنتج الغربي، بدل أن يأخذوا البلاد نحو إحياء الإنتاج الداخلي وإنعاش المصادر الحقيقية للشعب. کانوا قد عوّدوا الشعب على الواردات والاستیراد بأموال النفط، وغيّروا ذوق الناس، وقضوا على الزراعة في البلاد، ودمّروا الصناعات الوطنية، وجعلوا البلاد كلها تابعة للخارج ولأعداء الشعب.

هذه کانت الخصوصيّات الخمسة الأساسیة لدی النظام الطاغوتي، وهي علی الأغلب خصوصيّات مشتركة بین جمیع الأنظمة غیر الإلهیة في العالم، سواء الأنظمة الدکتاتوریة أو الأنظمة اللیبرالية التي هي طاغوتیة أکثر من الدکتاتوریات. في المقابل، یجب أن ندرس خصوصیّات الشعب أیضاً لکي نفهم کیف استطاع الإمام الخمیني أن يحرّك الجماهیر للنزول إلی الساحة ولقبول المسؤولیة وتحمّل الصعوبات وتقدیم التضحیات.

في هذا المجال یؤكّد سماحة الإمام الخامنئي علی خصوصية أساسیة لدی الشعب والتي شکّلت عنصراً مهمّاً في تمهید الأرضية المناسبة للثورة وهي "إیمان الشعب". ثمّ یذکر سماحة القائد وصفین مهمّین لإیمان الشعب وهما "عمق الإیمان" و "انتشار الإیمان". وجود هذا الإیمان العمیق والمنتشر لدی الشعب کان عاملاً مؤثراً في انطلاق الثورة. یذکر سماحة الإمام الخامنئي في مذکراته قصة ویقول: "جاء إلی إیران أحد القادة الإفریقيين المعروفین. وقد شرحت له کیف انتصرت الثورة الإسلامیة، قلت له لم یکن في الأمر انقلاب عسکري، ولا ضباط شباب جاءوا وأسقطوا الطاغوت کما هو دارج في العالم، ولم یکن للنخب والأحزاب دور مهم، إنما کان الدور لکتل الشعب الواسعة، ولیس هذا بالسلاح. لم یکن في أیدی الشعب الإیراني سلاح، وإنما نزلوا إلی الساحة بأید خالیة وبأجسامهم. وضعوا قلوبهم ودماءهم علی الأکف وسارعوا إلی الساحة. وهذا غیر ممکن من دون إیمان عمیق ومنتشر بین الناس. فنزلوا إلی وسط الساحة وانتصر الدم علی السیف، وهذه هی الحالة الطبیعیة في کل مکان. أین ما کان الشعب مستعداً للتضحیة فما من قوة تستطیع أن تقاومه. حین شرحت انتصار الثورة الإسلامیة لذلك القائد الإفریقي، کان الأمر مثیراً ولافتاً بالنسبة له جداً، وجدیداً علیه. ذهب وشاهدتُ بعد فترة وجیزة أنه قد انطلقت في بلاده مثلُ هذه الحرکة الشعبیة، وشعرتُ أن ذلك کان مستلهماً من سلوك إمامنا الخمینی الجلیل وسلوك شعب إیران، وقد انتصر هناك. لقد انتصر علی إحدی القوی المتعسفة الخبیثة الکبری المتسلطة علی العالم، واستطاع إنقاذ بلاده".

إذاً في مثل هذه البیئة الاجتماعیة قام الإمام الخمیني ونهض وتحرّك وحرّك الشعب وانطلقت الثورة. طبعاً سوف نتحدّث في حلقة مستقلّة حول أصحاب الدور الرئیسي في الثورة الإسلامية وسنتحدّث بالتفصیل حول الإمام الخمیني رضوان الله تعالی علیه وشخصیته وخصوصیاته أکثر وأکثر إن شاء الله.


الكاتب: السيد كميل باقر زاده




روزنامة المحور