الأربعاء 23 تموز , 2025 03:45

القتل المُنظَّم في صمت مُهذَّب: لغة الشر في زمن القانون الدولي

المجوعون في غزة

في عالم يُفترض أنه محكوم بمنظومة قانونية وأخلاقية دولية، لا ينبغي أن يكون من الممكن النظر إلى التجويع الجماعي لشعب بأكمله بوصفه أداة مشروعة من أدوات الحرب. ومع ذلك، هذا هو بالضبط ما يجري في غزة، تحت سمع وبصر "المجتمع الدولي" – أو ما يمكن وصفه بدقة أكبر، بالائتلاف الإمبريالي الذي يحكم العالم تحت ستار من الليبرالية الكاذبة والديمقراطية الشكلية.

منذ الأيام الأولى للعدوان "الإسرائيلي" على غزة، كان من الجلي أن الحملة ليست مجرد ردّ فعل عسكري، بل تصميم مهيكل على تنفيذ إبادة جماعية، بكل معنى الكلمة، لكن بأسلوب مموه بلغة قانونية وإنسانية مضللة. لم يكن قطع الكهرباء، ومنع الوقود، وإغلاق المعابر، سوى خطوات أولية في خطة تهدف إلى إخضاع السكان المدنيين عبر سياسة متكاملة تقوم على التجويع الممنهج، وليس فقط القصف أو التشريد.

في معظم الأدبيات العسكرية الغربية، يُفترض أن التجويع الجماعي يندرج تحت جرائم الحرب، لكن في حالة "إسرائيل"، كما في حالات أخرى حظيت برعاية أمريكية، يُنظر إلى هذه السياسة باعتبارها "أداة مشروعة للضغط السياسي". هكذا، يتحول القانون الدولي إلى أداة انتقائية بيد القوى المهيمنة، ويُعاد تعريف الجرائم استنادًا إلى هوية مرتكبيها لا طبيعتها.

سياسة مُمأسسة داخل منظومة دولية منحازة

حين يُمنع الغذاء عن أكثر من مليوني إنسان، ليس بسبب حصار طارئ، أو كوارث طبيعية، بل بقرار سياسي مباشر ومدروس، فإننا لا نتحدث عن فشل إنساني، بل عن نية واضحة لاستخدام التجويع كسلاح إبادة. هذا الشكل من العنف لا يقع في هامش "السياسات الإسرائيلية" تجاه غزة، بل في صميمها. الوثائق المسرّبة، والتصريحات العلنية لقادة الاحتلال، تكشف بشكل جلي أن حرمان السكان من الماء والغذاء والدواء، هو جزء من خطة "كسر الروح الجماعية" لغزة.

في النظام الدولي الحالي، الذي يتمحور حول التحالف الأمريكي-الأوروبي، تُصاغ القوانين الدولية لا لتُطبق على الجميع، بل لتُستخدم كذريعة للتدخل حين تمس المصالح الغربية، وتُعطل حين يقتضي الأمر حماية "الحلفاء المفضلين"، "كإسرائيل". يُقال كثيرًا إن الأمم المتحدة عاجزة، لكن ذلك توصيف ساذج. الأمم المتحدة ليست عاجزة، بل مُفرغة عمدًا من قدرتها على الفعل في حالات تمسّ المصالح "الأمريكية والإسرائيلية". تُحوَّل قراراتها إلى مجرد خطابات رمزية في حين تُداس الوقائع على الأرض بحذاء الاحتلال.

"مؤسسة غزة الإنسانية": الخصخصة كوجه جديد للإبادة

اللافت في هذا العدوان المستمر، أن إدارة التجويع والإبادة باتت تُخصخص، تمامًا كما يُخصخص كل شيء في اقتصاد السوق المتوحش. مؤسسة "غزة الإنسانية"، التي تم إنشاؤها بمباركة الولايات المتحدة، ليست مبادرة إنسانية كما يوحي اسمها، بل هي في الحقيقة آلية للرقابة والتحكم في تدفق المساعدات بما يخدم أهداف الاحتلال: الإخضاع، والفرز، والاستفراد، والتجويع المتدرج.

أن يقود هذه المؤسسة "جوني مور"، قسّ إنجيلي مرتبط بشبكات الضغط المسيحي الصهيوني في واشنطن، يعني ببساطة أن عملية الإبادة انتقلت من أروقة "الجيش الإسرائيلي" إلى غرف إدارة لوجستية في واشنطن وتل أبيب، حيث يُقرّر من يستحق أن يأكل، ومن يجب أن يضطر لمضغ أوراق الأشجار أو طحن علف الحيوانات لصنع الخبز.

هذا الشكل من الإدارة يُعيد إلى الأذهان النماذج الاستعمارية الكلاسيكية، حيث كانت القوى الاستعمارية تتحكم في مخازن القمح والدواء والدواليب الاقتصادية للمجتمعات التي تستعمرها، بهدف إعادة تشكيلها على نحو يخدم بقائها تحت السيطرة.

دور الإمبراطوريات: حين يصبح الغذاء سلاحًا سياسيًا

ليست هذه هي المرة الأولى التي يُستخدم فيها الغذاء كسلاح. في فيتنام، دعمت الولايات المتحدة سياسات "الأرض المحروقة"، وفي العراق، ساهم الحصار الاقتصادي في قتل مئات الآلاف من الأطفال، كما أقرّت بذلك وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت، التي قالت ببساطة إن "الثمن كان يستحق". إنها نفس العقيدة اليوم: إذلال السكان، تجويعهم، كسرهم، ثمّ تحميلهم وحدهم مسؤولية العنف الذي يتعرضون له.

في غزة، يُدار هذا المشروع بمشاركة صريحة من الولايات المتحدة، وتواطؤ أوروبي مباشر، وبتخاذل عربي يجعل كل شعارات القمم "الإسلامية" والعربية مجرّد أوراق لا تساوي الحبر الذي كتبت به.

 

الحقيقة أن غزة لم تُترك وحيدة لأنّ العالم لا يعرف ما يجري، بل لأنّ العالم يعرف بالضبط ما يجري، ويختار أن يفعل… لا شيء.

الإعلام والدعاية: غطاء الحرب النظيفة

في الوقت الذي يُقتل فيه المدنيون على أبواب مراكز توزيع المساعدات، تواصل وسائل الإعلام الغربية ترويج رواية "إسرائيل تدافع عن نفسها"، ويُشار إلى المساعدات القادمة من "غزة الإنسانية" كدليل على "النية الحسنة". يتم تزييف الواقع بالكامل، واختزال القصة في "معاناة إنسانية" لا في جريمة سياسية متعمدة. يُزال السياق، ويُشيطن الضحية، وتُمنح الجريمة شرعية مضاعفة.

هذه هي "بنية الدعاية المُمأسسة": حيث تقوم وسائل الإعلام الكبرى لا فقط بنقل الخبر، بل بإنتاج "واقع بديل" يخدم مركز القوة.

أوروبا: أخلاقيات مُعلقة على باب المصالح

بيانات الاتحاد الأوروبي التي تدعو إلى "تحسين الوضع الإنساني" لم تمنع تجويع الأطفال، ولم تُوقف المجاعة الزاحفة، ولم تفرض عقوبات حقيقية على الجناة. البيان الأخير الصادر في 21 يوليو/تموز، كان أوضح من أن يُفهم خطأً: إنه تسجيل موقف أخلاقي، لا فعل سياسي. لا قيمة لأي دعوة إذا لم تتبعها إجراءات، وكل دعوة غير مرفقة بوقف الدعم العسكري والسياسي "لإسرائيل"، هي تواطؤ مقنّع، مهما بدت مصاغة بلغة إنسانية.

حتى العقوبات الرمزية التي فُرضت على وزراء مثل سموتريتش أو بن غفير، جاءت بعد تسعة أشهر من القتل اليومي، ولم تمس المؤسسة العسكرية أو الحكومة التي تنفذ سياسات التجويع على الأرض.

النظام الدولي: عدالة إجرائية بلا مضمون

حين أُحيلت قضية الإبادة إلى محكمة العدل الدولية، قيل الكثير عن "الخطوة الجريئة". لكن منذ ذلك الحين، لم تتغير السياسات على الأرض. ما زالت "إسرائيل" تمنع دخول المساعدات، وتقتل المدنيين، وتبني "ممرات إنسانية" تُشبه إلى حد بعيد معسكرات الفرز النازية. وما زالت الدول الكبرى ترفض تنفيذ أو حتى دعم أحكام المحكمة، مما يكشف القصور البنيوي في ما يُسمى بـ"النظام الدولي القائم على القواعد".

هذا النظام، باختصار، لا يعمل إلا حين تخدم القواعد مصالح اللاعبين الأقوياء. أما حين يُطلب منهم الانصياع لقانون دولي محايد، فإنهم ببساطة يتجاهلونه أو يعيدون تأويله.

ما بعد الإبادة: الإقليم تحت الهيمنة

إن ما يجري في غزة لا يهدف فقط إلى تحطيم المقاومة، بل إلى إعادة هندسة البيئة الجيوسياسية للمنطقة. "إسرائيل"، من خلال الإبادة، تسعى إلى ترسيخ نفسها كقوة إمبريالية شبه مستقلة في المنطقة، قادرة على ضبط التوازنات، وفرض "نموذج غزة" في أي ساحة أخرى: الضفة، لبنان، سوريا، وربما لاحقًا الأردن أو حتى شبه جزيرة سيناء.

أما العرب، فإنهم لا يشاركون في هذه اللعبة فقط كمتفرجين، بل كأطراف منخرطة في ضمان استمرارها، إما بالصمت، أو بالتواطؤ، أو عبر تفكيك المجال العام وحرمان شعوبهم من التعبير، أو على الأقل من دعم القضية الفلسطينية معنويًا.

التجويع ليس مجرد نتيجة جانبية للحرب. إنه سياسة واعية ومقصودة، تتكامل مع القصف، والتشريد، والعزل، وتفكيك المجتمع الفلسطيني. وتُمارس هذه السياسة ضمن إطار قانوني-إعلامي-مؤسساتي دولي يوفر لها الغطاء الكامل.

ما يُسمى بالمجتمع الدولي ليس عاجزًا، بل متواطئاً. وما يُقدَّم على أنه "حرب معقّدة" هو في الحقيقة إبادة جماعية واضحة الملامح، تمضي إلى نهايتها في صمت دولي، وتواطؤ إقليمي، وارتباك شعبي.

وإذا كان ثمة أمل في وقف هذه الجريمة، فإنه لا يكمن في بيانات الخارجية الأوروبية، ولا في تغريدات البيت الأبيض، بل في القدرة الجماعية لشعوب المنطقة والعالم على إعادة بناء خطاب مقاوم، لا ينخدع بالمصطلحات، ولا يستعير أخلاق المنتصرين الزائفة.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]




روزنامة المحور