الخميس 17 تموز , 2025 04:16

مفاوضات غزة: خرائط الانسحاب تعيد إنتاج الاستعمار بـ"نسخة ناعمة"

قطاع عزة

المفاوضات كاستمرار للحرب بوسائل أخرى

في الظاهر، تدور مفاوضات الدوحة حول وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والمساعدات الإنسانية. لكن في العمق، ما يُدار في غرف المفاوضات ليس مجرد محاولة لإنهاء الحرب، بل هو امتداد لصراع أكبر على السيادة والحدود والمعنى السياسي لمستقبل غزة. فما يجري ليس فقط تفاوضًا على إنهاء العدوان، بل على ترسيم شروط "سلام استعماري ناعم"، تريد فيه "إسرائيل" الحفاظ على جوهر الهيمنة، ولو غيّرت أدواتها.

وهنا، تصبح "خرائط الانسحاب" نقطة الخلاف الجوهرية لا بسبب خطوطها المرسومة على الورق فقط، بل لأنها تعبّر عن تصور كل طرف لمفهوم الانسحاب ذاته: هل هو خروج كامل؟ أم إعادة انتشار محسوبة؟ وهل الهدف من التهدئة هو إنهاء الاحتلال أم إعادة إنتاجه بهيئة أكثر قبولًا دوليًا؟

"المرونة الإسرائيلية"… ما وراء المفردات

أشارت صحيفة جيروزاليم بوست إلى أن "إسرائيل" عرضت "خرائط جديدة تعكس مرونة إضافية"، وأكدت مصادر إعلامية "إسرائيلية" أن تل أبيب مستعدة "للتنازل" عن البقاء في محور موراغ، والتعاطي بمرونة فيما يخص الانتشار في "محور المحيط"، بل والعودة إلى خطوط وقف إطلاق النار السابقة مع إدخال "تعديلات طفيفة".

هذه العبارات، التي تبدو للوهلة الأولى مشجعة، لا تعكس تراجعًا فعليًا في الموقف "الإسرائيلي"، بل تعبر عن محاولة لإعادة تعريف مبدأ "الانسحاب" بحد ذاته، بحيث لا يعود خروجًا من الأرض بقدر ما هو إعادة تموضع ضمن هندسة أمنية تتيح لها استمرار المراقبة والقدرة على التدخل متى شاءت.

فما تسميه "إسرائيل" بـ"المرونة" ليس إلا محاولة لإقناع الوسطاء بأن وجودها في غزة سيكون أقل فجاجة، دون أن تفقد قبضتها. وهو ما يؤكده المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف حين قال إن "المفاوضات تسير جيدًا"، وهو تعبير دبلوماسي لا يُفصح عن مضمون الاتفاقات، بل يوحي بتقدّم في قضايا تخص مصالح واشنطن وتل أبيب، لا بالضرورة مصالح الشعب الفلسطيني.

الخرائط كأداة استعمار ناعم

ليست الخرائط مجرّد خطوط ترسم حدود انسحاب، بل هي وثيقة تعكس إرادة السيطرة. تاريخيًا، استخدمت القوى الاستعمارية الخرائط لإعادة ترتيب الجغرافيا بما يخدم مصالحها. من اتفاقية سايكس بيكو إلى خط بارليف، لطالما كانت الخرائط وسيلة لتطويع الجغرافيا بما يتلاءم مع منطق القوة.

اليوم، تعود "إسرائيل" إلى هذه الأداة، لا لتُجري انسحابًا حقيقيًا، بل لتصوغ شروط تموضعها بطريقة تُرضي حلفاءها الأميركيين وتخدع الوسطاء. فالخلاف لم يعد فقط حول محور موراغ، بل بات يتمحور حول مدينة رفح، التي ترى فيها تل أبيب نقطة ارتكاز استراتيجية لمنع "الفراغ الأمني"، أي بقاء غزة تحت رقابة غير مباشرة.

بعبارة أخرى، تُستخدم الخرائط لضبط الفضاء الفلسطيني ومنع تحوّله إلى مساحة سيادة فعلية لحركة حماس أو أي كيان مقاوم. فما يُراد ليس "الانسحاب" بل "إعادة تنظيم الاحتلال"، بحيث يكون أقل كلفة، وأكثر قبولًا دوليًا.

رفح وممر موراغ… رمزية المكان في معركة المعنى

لم يكن تركيز "إسرائيل" على رفح وليد اللحظة، بل هو امتداد لاستراتيجية قديمة تسعى لعزل قطاع غزة عن مصر عبر "حزام أمني" يمتد من معبر كرم أبو سالم حتى الحدود البحرية، مرورًا بمحور صلاح الدين. لكن الجديد اليوم هو الربط بين رفح وخارطة التفاوض نفسها.

ففي جولة المفاوضات الأخيرة، أظهرت "إسرائيل" "استعدادًا للتنازل" عن البقاء في محور موراغ – وهو المحور الذي يُفترض أنه الرابط بين المستوطنات السابقة في جنوب غزة. لكنها بالمقابل ركّزت على رفح، كموقع استراتيجي لا يمكن التخلي عنه، لأسباب أمنية بالدرجة الأولى، تتعلق بالأنفاق والمعابر والاتصال مع سيناء.

النتيجة؟ أن "إسرائيل" تناور على خرائط الانسحاب لتحويل "الحدود" إلى نقاط سيطرة أمنية، بدون تواجد مباشر. وهذا بالضبط ما يعنيه مصطلح "إعادة الانتشار" في "القاموس الإسرائيلي" – البقاء من دون الظهور، والمراقبة من دون الوجود، والقمع من دون الاحتلال الرسمي.

الدور الأميركي… هندسة التفاوض لا إنهاء العدوان

يأتي تصريح دونالد ترامب بأنه "يملك أخبارًا جيدة بشأن غزة"، في سياق لا يخرج عن محاولته تعزيز دوره. لكنه أيضًا يسلّط الضوء على أن الإدارة الأميركية، عبر مبعوثها ويتكوف، لا تضغط على "إسرائيل" للانسحاب الكامل، بل لإعادة هندسة تموضعها بطريقة لا تُحرج واشنطن أمام شركائها في المنطقة، خاصة قطر ومصر.

الولايات المتحدة لم تكن يومًا وسيطًا نزيهًا، لكنها اليوم تتحول إلى طرف يدير التفاوض بآليات الضبط الاستعماري، حيث تُعد الخرائط بالتوافق بين "الوفد الإسرائيلي" ومندوبي البيت الأبيض، ثم تُعرض على الوسطاء العرب كأمر واقع. إنها دبلوماسية الخرائط الجاهزة.

حماس والمرونة ذات الطابع الاستراتيجي

في المقابل، أعلن الناطق باسم حركة حماس جهاد طه أن الحركة "تعاملت بمرونة وبروح المسؤولية" ولكنها ترفض أي "وجود إسرائيلي" داخل غزة أو فصل أي منطقة جغرافيًا عن القطاع. هذا الموقف يعبّر عن إدراك حماس لطبيعة المعركة السياسية، التي لا تقل أهمية عن المعركة العسكرية.

رفض وجود الاحتلال في رفح أو أي نقطة داخل القطاع، هو رفض لمشروع تحويل غزة إلى "منطقة خالية من المقاومة" من الخارج، أي أن تُدار غزة أمنيًا من الجو والأقمار الصناعية والطائرات المسيّرة، دون وجود جنود على الأرض. وهو شكل جديد من الاحتلال، يصعب رصده لكنه لا يقل وحشية عن الاحتلال المباشر.

 مفاتيح الأسرى والمساعدات… ثغرات مفتوحة للتأجيل

ورغم ما يُقال عن "تقدّم المفاوضات"، فإن القضايا الأساسية لا تزال عالقة: النسبة بين المحتجزين الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين، وشروط الإفراج عن الدفعات، ومسارات إدخال المساعدات. لكن ما هو أهم أن كل هذه القضايا أصبحت "تُدوّر" حول مسألة السيادة: من يقرر جدول التبادل؟ من يتحكم بالممرات؟ من يرسم خطوط الانتشار؟

إنها معركة سيادة في المقام الأول، وليس مجرد عملية إنسانية كما تحاول واشنطن تصويرها. المساعدات، بحد ذاتها، أصبحت أداة ضغط سياسي تُدار بتقنية الحصار، لا بهدف إنقاذ الأرواح، بل تطويع المقاومة.

مفاوضات على إيقاع النيران

من الجدير بالذكر أن هذه المفاوضات تُعقد بينما لا تزال الحرب دائرة. أي أن "إسرائيل" تمارس التفاوض تحت النار، ما يمنحها أوراق ضغط ميدانية على طاولة التفاوض. هذا الوضع يعبّر عن عدم تكافؤ في شروط المفاوضات، حيث الطرف الفلسطيني في وضع دفاعي إنساني، والطرف "الإسرائيلي" في وضع هجوم عسكري ودبلوماسي.

لكن مع ذلك، تكشف مسألة الخرائط والمرونة الإسرائيلية الزائفة عن شيء أعمق: "إسرائيل" لم تعد قادرة على فرض شروطها بشكل كامل، بل تضطر إلى تقديم تنازلات شكلية لتفادي انفجار سياسي إقليمي.

الخرائط لا تصنع السلام… بل تعيد تدوير السيطرة

إن المفاوضات الجارية ليست سوى محاولة للالتفاف على نتائج المعركة الميدانية، التي أثبتت عجز "إسرائيل" عن الحسم، وانكشاف هشاشتها الاستراتيجية. ولذلك، تحاول اليوم أن تنقل المعركة إلى طاولة الخرائط، مستعينة بخبرة استعمارية طويلة في التحكم بالفضاء الفلسطيني.

لكن كما فشلت في كسر إرادة المقاومة عسكريًا، فإنها ستفشل في فرض سلام مشروط عبر الخرائط. لأن ما يريده الفلسطينيون ليس خطوطًا جديدة على الورق، بل نهاية فعلية للاحتلال، وسيادة حقيقية على الأرض والقرار.

وهنا، يجب أن تُطرح الأسئلة الكبرى:

هل يكون وقف إطلاق النار مقدمة لتحرير حقيقي؟ أم استراحة لمحاولة السيطرة مجددًا؟

هل الخرائط أدوات سلام؟ أم خرائط استسلام مؤجّل؟

وهل المفاوضات أفق للعدالة… أم مخرج اضطراري لقوة استعمارية مأزومة؟

في الإجابة على هذه الأسئلة، تُختبر فعالية كل الأطراف.

لكن الأكيد أن غزة، التي صمدت تحت النار، لن تُقايض سيادتها بخريطة ناقصة أو بـ"مرونة كاذبة".


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور