عندما تصبح "الهدنة" مدخلاً لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية عبر استثمار الدمار، وعندما يُعاد تعريف وقف إطلاق النار كآلية تكتيكية لتمكين المحتل من تحقيق مكاسب جديدة، فإننا لا نكون أمام مبادرة سلام، بل أمام وثيقة استسلام مغلفة بلغة إنسانية مزيفة. هذا بالضبط ما تعنيه "الهدنة الستينية" التي يحملها المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف، ويشرف عليها دونالد ترامب شخصيًا، في محاولة جديدة لإعادة تدوير الفشل الأميركي في الشرق الأوسط على شكل صفقة خادعة تبدو في ظاهرها تسوية، وفي باطنها إعادة تعويم الاحتلال الإسرائيلي.
مقترح الانقلاب: من تفاهمات الدوحة إلى صيغة إذعان جديدة
إن المقترح الأميركي لا يستكمل تفاهمات الدوحة كما زُعم، بل ينقلب عليها بالكامل، ويؤسس لمرحلة جديدة من التحكم الأحادي من قِبل تل أبيب، بغطاء أميركي كامل. لا يقتصر الأمر على الخلاف في التفاصيل، بل يمتد إلى البنية السياسية واللغوية للاتفاق نفسه: من تفاهم متوازن ينطلق من صفقة تبادل متكافئة نسبيًا، إلى اتفاق يمنح "إسرائيل" اليد العليا ويجرد المقاومة من ورقتها الوحيدة – ورقة الأسرى.
إطلاق سراح 10 رهائن (بينهم 9 جثامين) مقابل وقف مؤقت لإطلاق النار، مدته 60 يوماً، ليس عرضًا عادلاً بل تكتيك سياسي يهدف إلى امتصاص الضغط الأوروبي والأممي، وفتح نافذة تعافٍ لجيش الاحتلال المنهك. أما ما بعد الستين يومًا، فسيكون مفتوحًا على كل السيناريوهات العدوانية الممكنة، بعد أن تكون "إسرائيل" قد أفرغت الملف التفاوضي من محتواه.
"هدنة" دونالد ترامب: كاريكاتور السلام الجديد
ما يميّز هذا المقترح عن العروض السابقة ليس فقط مضمونه، بل الجهة التي تقف خلفه: دونالد ترامب. الرجل الذي بنى حملته الرئاسية على "صفقة القرن"، والذي لا يخجل من تصوير الحرب على غزة كأداة لتعزيز صورته أمام قاعدة اليمين الأميركي، يحاول اليوم أن يلعب دور الوسيط. والنتيجة: صفقة مليئة بالثغرات، لا تلبي أدنى شروط العدالة، وتُفصل وفق مقاسات "إسرائيل" السياسية.
الضمانات الأميركية لوقف إطلاق النار تبدو هزيلة وغير مقنعة، إذ لا تتضمن آلية رقابة أو محاسبة، بل تعتمد على "وعد شرف" من إدارة لا تُخفي انحيازها. أما النصوص المتعلقة بالمساعدات الإنسانية فهي، مبهمة وقابلة للتأويل، ما يفتح الباب لتملّص "إسرائيل" من التزاماتها بمجرد حصولها على "نصف الغنيمة".
التواطؤ الأميركي: من إخفاقات بايدن إلى مشاريع ترامب
التحول الخطير في السياسة الأميركية لا يكمن فقط في مضمون الصفقة، بل في القطيعة الكاملة مع أي تصور للعدالة. واشنطن لم تعد تحاول حتى التظاهر بالحياد. منذ بداية الحرب على غزة، تعاملت إدارة بايدن مع "الملف الفلسطيني" كعبء داخلي وإقليمي، لا كمأساة إنسانية تستحق موقفًا مبدئيًا. والآن، ومع دخول ترامب مجددًا على خط التفاوض، نشهد انتقالاً من مرحلة "إدارة الأزمة" إلى "هندسة النتائج".
ما يجري هو استثمار مباشر في الحرب من أجل تحقيق مكاسب سياسية، سواء لنتنياهو في الداخل "الإسرائيلي"، أو لترامب في الشرق الأوسط والمنطقة. بهذا المعنى، تصبح غزة ساحة لتجريب نظريات السياسة البراغماتية الأميركية، و"الرهائن" مجرد أدوات في لعبة إعادة التموضع الجيوسياسي.
تفكيك البنية التفاوضية: الإغراء بالجثث والخداع بالوقت
ما يجدر التأمل فيه هو هذه الثنائية العبثية التي يقترحها المشروع: إطلاق "رهائن" أحياء وجثث دفعة واحدة، ثم منح "إسرائيل" مهلة زمنية لإعادة تنظيم صفوفها. نحن أمام صفقة تبادل لا تحقق لا العدالة ولا التوازن، بل تعيد إنتاج الاحتلال في صيغة "مؤقتة" هدفها الاستراتيجي إنهاء أي قدرة تفاوضية للمقاومة الفلسطينية.
إن "إسرائيل" تحصل، بموجب هذه الصفقة، على كل ما تريده: التخلص من الضغوط، إطلاق سراح نصف الرهائن، وتمديد المعركة على طريقتها. إنها صفقة "غير مكتملة" لكنهاكافية" لتجريد الطرف الآخر من أوراق القوة، وهو ما يجعلها خطوة أولى في "خطة خماسية" مبيّتة تحدث عنها نتنياهو: الأسرى، إنهاء حماس، نزع السلاح، التهجير، ثم تصفية القضية.
الحكومة "الإسرائيلية": بين العنف والابتزاز الداخلي
الواقع السياسي الداخلي في "إسرائيل" يزيد الأمور تعقيدًا. إذ ما زال نتنياهو يناور بين مطالب المجتمع الدولي وضغوط حلفائه المتطرفين مثل سموتريتش وبن غفير، الذين يرفضون أي هدنة جزئية أو خطوات غير دموية. وهذا يجعل الصفقة نفسها غير مضمونة الاستمرار، حتى من داخل المعسكر "الإسرائيلي". فمجرد الموافقة عليها لا يعني تنفيذها بسلاسة، بل ربما تُستخدم كأداة مؤقتة لتخفيف الضغط ثم نسفها عند أول لحظة.
وهنا تكمن خطورة "الهُدن المؤقتة" المدعومة أميركيًا: أنها لا تحمي المدنيين ولا توقف الحرب، بل تُحوّل التفاوض إلى أداة بيد القاتل، وتُضعف الطرف الأضعف عبر جرّه إلى مربّعات مرنة قابلة للتلاعب.
لا سلام دون قرار سياسي أميركي
في التحليل النهائي، تتوقف فرص الحل على قرار سياسي واحد: هل تريد الولايات المتحدة فعلاً وقف الحرب؟ كل المعطيات تشير إلى أن الجواب لا. إذ أن القرار النهائي لا يُتخذ في تل أبيب بل في واشنطن. وإذا كان ترامب غير مستعد لاستخدام أدوات الضغط على "إسرائيل"، فإن كل المبادرات ليست سوى مضيعة للوقت وتثبيت للوقائع الاستعمارية على الأرض.
نحو قراءة نقدية للأفق القريب
صفقة ويتكوف – ترامب ليست تسوية، بل تمرين جديد على تثبيت الاحتلال وتقويض شروط الصمود الفلسطيني. إنها محاولة لإعادة بناء المعادلة التفاوضية من الصفر، بعد إضعاف كل أدوات الردع لدى المقاومة، وتحويل الورقة الإنسانية إلى أداة في خدمة التصفية السياسية.
لكن التاريخ يعلمنا أن الشعوب لا تُخدع إلى الأبد. كما فشلت "صفقة القرن"، وكما فشلت مشاريع الغيتو الإنساني، ستفشل هذه الصفقة طالما بقي الوعي الفلسطيني قادرًا على التمييز بين المساعدات والمهانة، وبين التفاوض والابتزاز.
في المحصلة، لا يمكن قراءة أي مشروع سلام بمعزل عن توازنات القوة. والهدنة التي تُمنح تحت فوهة البندقية، وتُراقب من "مكتب مقامرة" في واشنطن، ليست هدنة، بل استراحة استعمارية على حساب دم شعب، وذاكرة أمة، ومقاومة لم تنكسر بعد.
كلمة أخيرة: صراع الإرادة لا الأوراق
يريدون أن يُقنعوا العالم أن هذا المقترح هو الحل الوحيد، وأن رفضه يعني "رفض السلام". لكن ما يرفضه الفلسطينيون هنا ليس السلام، بل سلام الاحتلال. وما يواجهونه ليس فقط آلة عسكرية، بل ماكينة خطابية أميركية تُعيد تعريف كل شيء: من المقاومة إلى الإرهاب، من العدالة إلى "وقف الأعمال العدائية"، ومن المجازر إلى "العمليات الأمنية".
في ظل هذا المشهد، لا يبقى للفلسطيني سوى سلاحه الأهم: الإرادة السياسية والوعي الجماعي. فالخضوع لهذا المقترح لن يوقف الحرب، بل سيُعيد إنتاجها بشكل أكثر دموية.
وحين يسقط القناع عن كل هذه "المبادرات"، يدرك العالم – ولو متأخرًا – أن ما يحدث في غزة ليس أزمة إنسانية، بل جريمة سياسية تُرتكب على مرأى من القانون الدولي، وبمباركة القوة العظمى في العالم.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]