الثلاثاء 21 تشرين أول , 2025 11:29

عين واشنطن على معادن افريقيا: مواجهة التنين دون استراتيجية شاملة!

بينما تنشغل الأصوات بالحديث عن ملفات تتصدر الساحة الدولية في الشرق الأوسط وأوكرانيا،  تتسلل من الكواليس اهتمامات الولايات المتحدة الأخرى، التي لا تزال  إلى القارة السمراء رياح تنافس محموم عنوانه "المعادن النادرة". فعودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض لم تقتصر على إعادة رسم السياسات في الشرق الأوسط أو إعادة التموضع في المحيط الهادئ، بل شملت أيضاً محاولة بناء موطئ قدم جديد في أفريقيا، القارة التي تحمل في باطنها ما قد يحدد مستقبل التكنولوجيا والاقتصاد العالميين خلال العقود المقبلة.

منذ اليوم الأول لولايته الثانية، وقّع ترامب أمراً تنفيذياً يركّز على قطاع المعادن -من الاستخراج إلى المعالجة- إدراكاً لأهمية هذه الموارد في صناعة السيارات الكهربائية والرقائق الدقيقة والطاقات النظيفة. ورغم أن الأمر يركّز على الداخل الأميركي، إلا أنه تضمّن إشارات واضحة إلى التعاون مع الدول "الصديقة"، في إشارة غير مباشرة إلى الدول الافريقية التي تختزن أكثر من 30% من احتياطيات العالم من المعادن الحيوية مثل الكوبالت والليثيوم والعناصر الأرضية النادرة.

لكن هذه العودة الأميركية إلى أفريقيا لا تبدو حتى الآن نتاج رؤية متكاملة، بقدر ما تعكس رغبة براغماتية في اقتناص الفرص وضمان أمن سلاسل التوريد في مواجهة الهيمنة الصينية. فبينما ترفع إدارة ترامب شعار "التجارة لا المساعدات"، تظل المقاربة الأميركية مجتزأة، تحركها المصالح المباشرة أكثر مما يحكمها تصور استراتيجي طويل المدى.

ففي الوقت الذي تتحدث فيه واشنطن عن الشراكة، لا تزال بكين متقدمة. فقد تجاوز حجم التبادل التجاري بين الصين وأفريقيا 240 مليار دولار، مقابل نحو 47 مليار دولار فقط مع الولايات المتحدة. وتمتلك الشركات الصينية حصصاً في 15 من أصل 19 منجماً لإنتاج الكوبالت في الكونغو الديمقراطية، وهي دولة تنتج وحدها 80% من الإمدادات العالمية. كما تسيطر الصين على 85% من عمليات معالجة هذه المعادن عالمياً، ما يجعلها اللاعب المهيمن في سلسلة القيمة التي تحاول واشنطن اللحاق بها.

تسعى الإدارة الأميركية إلى كسر هذه الهيمنة عبر أدوات مالية وتنموية، من أبرزها بنك التصدير والاستيراد الأميركي، الذي لعب دوراً محورياً في تمويل الاستثمارات في قطاع المعادن الأفريقي، خصوصاً في المشاريع المرتبطة بالطاقة النظيفة. في عام 2022 مثلاً، أبرمت واشنطن اتفاقيات مع الكونغو الديمقراطية وزامبيا لتطوير سلسلة توريد خاصة ببطاريات السيارات الكهربائية، مستفيدة من النحاس والكوبالت والليثيوم في هذين البلدين.

ويشير مسؤولون أميركيون، إلى أن هذه الجهود ما زالت في طور التطوير، ما يعكس غياب سياسة شاملة. فحتى الآن، لم تحدد واشنطن بوضوح أولوياتها في القارة: هل تسعى لبناء شراكات اقتصادية متوازنة أم لمجرد مواجهة النفوذ الصيني؟ هذا الغموض في الرؤية يجعل التحركات الأميركية تبدو أقرب إلى ردود فعل آنية منها إلى خطة استراتيجية متماسكة.

في المقابل، تواصل الصين تنفيذ مشاريع بنى تحتية ضخمة مثل تأهيل سكة حديد تازارا بين تنزانيا وزامبيا، ضمن شبكة مترابطة تربط موانئ الشرق الأفريقي بمناطق التعدين الداخلية.

يضاف إلى ذلك أن أفريقيا تعاني من فجوة تمويلية تبلغ نحو 350 مليار دولار في مجال البنية التحتية، وفق وزير النقل الزامبي فرانك تايالي، ما يجعلها في حاجة ماسة إلى تمويل خارجي متواصل. وفي ظل هذا العجز، تميل بعض الدول إلى التعامل مع بكين التي تقدم قروضاً سهلة التنفيذ، فيما تفرض واشنطن شروطاً معقدة. هذه الفوارق تجعل الصين أكثر جاذبية على المدى القصير، حتى وإن أدت قروضها إلى أعباء ديون لاحقة.

في الحقيقة، تتعامل الولايات المتحدة مع أفريقيا بوصفها مخزوناً إستراتيجياً للمعادن أكثر من كونها شريكا تنموياً. فهي تريد موارد القارة لتغذية اقتصادها الصناعي وضمان تفوقها التكنولوجي، لكنها لم تطرح بعد تصوراً متكاملاً لبناء تنمية مشتركة تقوم على تبادل المصالح الحقيقي. ولهذا، فإن ما تقدمه واشنطن حتى الآن هو مقاربة تخص قطاع محدد، لا ترتقي إلى مستوى "إستراتيجية أفريقية" شاملة ومتكاملة.

من ناحية أخرى، إذا لم تخرج واشنطن من منطق الصفقات السريعة نحو رؤية أعمق وتستثمر في الإنسان والبنية التحتية معاً، فإن حضورها سيظل هشاً أمام نموذج صيني رسّخ نفسه في الميدان منذ عقود.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور