بعد عقدين من مشاركته في غزو العراق، عاد اسم رئيس وزراء بريطانيا الأسبق توني بلير، إلى الواجهة، لكن هذه المرة في سياق جديد: قيادة مرحلة "اليوم التالي" في غزة ضمن خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. الاقتراح أثار جدلاً واسعاً، ليس فقط بسبب شخصية بلير المثيرة للانقسام في الداخل البريطاني، وإنما أيضاً نتيجة سجلّه التاريخي المليء بالإخفاقات والجرائم في الشرق الأوسط.
توني بلير هو أحد أكثر الشخصيات السياسية البريطانية شهرة بعد الحرب العالمية الثانية، لكنه لا يغيب عن الذاكرة العامة بسبب قراراته المثيرة للجدل، لا سيما المشاركة في غزو العراق عام 2003. فبدعم وثيق من الولايات المتحدة، انخرط بلير في حرب على أساس مزاعم امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، ومخطط للإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين. التحقيق البريطاني الشهير المعروف باسم تقرير تشيلكوت عام 2016 أشار إلى أن بلير بالغ عمداً في تقدير التهديد العراقي، وذهب إلى الحرب "بأي ثمن"، ما أدى إلى سقوط مئات الآلاف من الضحايا، وتدمير البلاد، وخلق فراغ أمني وفوضى سياسية مستمرة. وقد وصف كثير من المراقبين هذه المرحلة بأنها أحد أكبر إخفاقات السياسة البريطانية الحديثة، وأنها خلقت إرثاً من العداء في العالم العربي، وصل حد اعتبار بلير مسؤولاً عن جرائم حرب.
بعد تنحيه عن رئاسة الوزراء في عام 2007، عُين بلير مبعوثاً للشرق الأوسط عن اللجنة الرباعية، ممثلاً الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا. وكان الهدف المعلن هو دعم عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين وتهيئة الظروف لحل الدولتين. غير أن تجربته في هذا الدور لم تُسجل إنجازات تُذكر. التقارير الإعلامية والدبلوماسية أظهرت ضعف علاقاته مع السلطة الفلسطينية، وانتقاداً واسعاً من الفلسطينيين والمراقبين على حد سواء لعدم كفاءته في تحقيق أي تقدم ملموس، حتى بعد ثماني سنوات من العمل في المنطقة.
هذا السجل التاريخي المليء بالإخفاقات والجرائم يجعل من اختيار بلير ضمن خطة ترامب لغزة قراراً مثيراً للجدل ويحمل علامات استفهام كبرى. الخطة الأميركية تقترح إنشاء "السلطة الانتقالية الدولية لغزة" (GITA)، برئاسة بلير، لتتولى الإشراف على إعادة إعمار القطاع بعد الحرب. وهو ما يطرح تساؤلات جوهرية حول شرعية هذا الدور، لا سيما أن غالبية الفلسطينيين يعتبرون بلير شخصية غير موثوقة، وأن وجوده قد يعكس مصالح القوى الغربية أكثر من اهتمامه بمصالح الفلسطينيين.
ومع ذلك، فإن أسباب اختيار بلير واضحة من منظور الإدارة الأميركية. فهو يمتلك شبكات علاقات واسعة مع القادة الغربيين، ويجسد تجربة دبلوماسية، ويُنظر إليه في واشنطن كلجنة وصل مع حلفاء الولايات المتحدة، لا سيما بريطانيا. إضافة إلى ذلك، فإن المعهد الذي أسسه بلير، "معهد توني بلير للتغيير العالمي"، يُتيح له استمرار النفوذ في السياسات الدولية، ومواصلة التواصل مع صناع القرار في الشرق الأوسط وأوروبا، ما يجعله أداة مناسبة لتنسيق مشروع الادارة الاميركية في غزة بحسب رؤية ترامب.
لكن هذا الدور المقترح يثير أيضاً مخاوف أخلاقية وسياسية. يصف خبراء فلسطينيون ودوليون المشروع بأنه استعماري، حيث تُدار غزة من قوى خارجية، مما يضعفه شرعياً أمام المجتمع الفلسطيني. كما يشير النقاد إلى أن اختيار بلير يؤكد عدم صوابية النزاهة والدوافع الحقيقية للخطة، ويعيد إلى الأذهان التجارب السابقة التي ارتبطت بتدمير دول وإشعال صراعات طويلة الأمد في المنطقة.
يظهر توني بلير كشخصية تجمع بين خبرة دولية واسعة وسجل تاريخي مثقل بالإخفاقات والاتهامات، وهو ما يجعل دوره المقترح في خطة ترامب لغزة محور جدل عالمي. ففي حين يرى بعض الدبلوماسيين الغربيين أنه الخيار الأمثل لتنسيق هذه الخطة فإن الفلسطينيين والمراقبين العرب ينظرون إليه بعين الريبة والرفض، معتبرين أن تاريخه الطويل في التدخلات العسكرية والسياسية في الشرق الأوسط يجعل من مشاركته ضرباً لأي مصداقية "ان وجدت".
إن النقاش حول بلير لا يقتصر على كفاءته الفردية، بل يتجاوزها إلى رمزية التاريخ السياسي المعقد للشرق الأوسط، والانعكاسات المحتملة لتكرار أدوار غربية تسعى لإدارة مناطق الصراع من الخارج، بعيداً عن مشاركة فعالة للفلسطينيين. وتكرار التجارب في واقع معقد كغزة، هو حتماً تكرار لمزيد من الاخفاقات واستمرار للابادة بأشكالها المختلفة.
الكاتب: غرفة التحرير