شهدت محافظة السويداء في الآونة الأخيرة واحدة من أبرز المحطات الدامية في مسار التفتيت والتقسيم السوري، حيث اصطدمت طموحات الجولاني -الذي بات يشكّل عماد المرحلة الانتقالية في سوريا وفقًا للتفاهم الأميركي- الإسرائيلي- مع صلابة وتشدّد بعض الفصائل الّتي لم يستطع ولن يستطيع أن يسيطر عليها، فالدّولة ذات الطّابع العلماني في مؤسّساتها لا يمكن أن تتماهى مع ما يسمّى بالإسلام العنفيّ عند هؤلاء المتطرّفين (الإسلام الأصيل منهم براء)، فاجتماع أذربيجان (الّذي نُفي عدّة مرّات) الّذي كان بين قيادات سوريا ومنهم الشّرع مع موفدين أمنييّن إسرائيليّين حسب بعض التّسريبات الإعلاميّة، ما كان إلّا لرسم مخطّط زوال سوريا المركزيّة والانتقال إلى تقسيم سوريا، وكلّه من أجل خلق منطقة عازلة منزوعة السّلاح تطيل عمر الكيان.
في الإعلام، المجتمع الدرزي الذي رفض الانضواء تحت سلطة الدولة المفروضة بالقوة، كان ورقة الذّريعة الّتي سيعبّر عنها الإسرائيلي "بواجبه الإنساني" لحماية الأقليّات وبذلك يسيطر على الأرض والشّعب. ولعلّ دخول العشائر لمساندة قوات الجولاني، يكشف عن المحاولة التّركيّة لاستدراك الموقف وبسط سلطة الحكومة السّوريّة في جميع المناطق، وإنّ تدخل العدو الإسرائيلي عبر ضربات جوية بذريعة "حماية الأقليات" كما ذكرنا، أظهر محدودية هذه القوى في الحسم العسكري من جهة، وطبيعة المشروع الأمني الإسرائيلي في الجنوب السوري من جهة أخرى. سأعالج في هذه الورقة الضّعف العملياتي لهذه القوى بالحسم في هكذا نوع من المعارك، وأقارنها مع التّهديد المفروض على لبنان من قبل نفس الجماعة لنتأكّد من مدى نجاعتها وقدرتها على تحقيق أهدافها أو لا، وتأتي هذه الورقة أيضاً لتبحث في هذا الفشل وتُقارن بين التوازنات التي حكمت معركة السويداء وبين ما يُراد تطبيقه في سلسلة لبنان الشرقية والبقاع الغربي.
وإذا كانت معركة السويداء قد كشفت عمق المأزق العملياتي لتلك القوى، فإن التساؤل الجوهري يكمن في:
هل يُمكن لهذه القوى – بمفردها أو بدعم جوي إسرائيلي – أن تخوض معركة حاسمة أمام حزب الله؟
وهل يُمكن تحويل الفشل في السويداء إلى نصر محتمل على حدود لبنان؟ أم أن الفجوة بين المعركتين لا تُردم؟
أولاً: الفشل العملياتي في معركة السويداء
-1- غياب القدرة النارية الذاتية
في معركة السويداء، وعلى عكس ما قد يُفترض نتيجة السّياقات السّياسيّة ومسار التّطبيع، لم يكن الدّعم الجوّي الإسرائيلي للفصائل المهاجمة، بل كان في جوهره موجّهًا لحماية المكوّن الدرزي وضمان عدم انهياره السريع، للاستفادة ديموغرافيّاً من هذا المكوّن الموجود في المنطقة العازلة الّتي يسعى العدوّ إلى إنشائها، فقد تفاجأ بتدخّل العشائر بهذه القوّة، وذلك بأمر من التّركي لمنع تقسيم سوريا وذلك بانَ في تصريحاته، وأدّى دخول العشائر الميدان إلى تأزّم الوضع بين الحكومة الصّهيونيّة والدروز في الكيان ما اضطّر الإسرائيلي إلى تصعيد الخطاب ونوعيّة الضّربات وأماكنها لإيصال رسالة مفادها إسقاط النّظام، والمحافظة على الجبهة الدّاخلية الإسرائيليّة خالية من شغب الدّروز، وطبعاً كلّه يصبّ في المحافظة على الهدف غير المعلن بالبدء بمشروع معبر داوود.
إنّ القوات التي اقتحمت السويداء – سواء من العشائر أو من الأمن العام – لم تكن تمتلك الحدّ الأدنى من الكثافة النارية المطلوبة لحسم معركة داخل بيئة جغرافية وعقائدية معادية، حيث يرتفع منسوب القتال العقائدي ويُصبح المدني جزءاً من الدفاع.
إن غياب وحدات مدفعية فعّالة، أو قوات خاصة منظّمة قادرة على الاقتحام تحت النار، أو حتى غرفة عمليّات مشتركة تنضوي تحت قيادة واحدة، يُظهر أن هذه الجماعات لا زالت تعاني من بنية قتالية غير مكتملة، ذات طابع ميليشيوي أكثر من كونها جيشًا قادرًا على خوض معركة هجومية متعدّدة المحاور في بيئة مرتفعة ومعقدة.
-2- غياب العمق التعبوي
لم تكن الفصائل المهاجمة تمتلك خطوط إمداد مستقرّة وواضحة وممنهجة أو غطاءً لوجستيًا مستمرًا، وهو ما أظهر الطّابع القافز والعشوائي للعمليّات العسكرية، التي اعتمدت على المراهنة السياسية لا على الثبات الميداني، وهذا ما يفسّر الانسحابات السريعة في بعض قرى الأرياف بمجرد فشل الهجوم الأولي.
ثانياً: التوسّع نحو لبنان: المواجهة في السلسلة الشرقية والبقاع الغربي
-1- محاولة اجتياح من السلسلة الشرقية
في حال قرر الجولاني بما يسمى جيش أو أمن عام أو عشائر أو فصائل منفصلة (والتي تُعتبر قوات حليفة للعدوّ ضمن المشروع الإقليمي الجديد) شنّ هجوم على السّلسلة الشرقية انطلاقًا من العمق السوري، فإنّنا أمام بيئة مشابهة جغرافيًا ولكن مع خصم يفوق بمئات المرات في الخبرة والتسليح والتكتيك. فحزب الله قوّة تملك القدرة على نشر قوات خاصة على امتداد السلسلة، واستخدام البيئة الجغرافيّة كمسرح لحرب الكمائن والهجوم المعاكس.
وبعكس دروز السويداء، فإن حزب الله يملك تفوقًا ناريًا نوعيًا ودفاعًا متعدد الطبقات من صواريخ موجهة، مدفعية دقيقة، طائرات بدون طيار، وقوات صاروخية مضادة للدروع يمكنها سحق أي تقدم آلي.
-2- محاولة الاختراق الإسرائيلي من جهة المصنع وعزل البقاع الغربي
يتحدّث كثيرون عن سيناريو محتمل وهو محاولة شنّ عملية إسرائيلية برّية موازية من جهة المصنع في البقاع الغربي، ضمن خطة لحصار حزب الله من الجبهة الشرقية والجنوبية الغربية، لكن هذه المحاولة تعترضها عدّة محددات، وليس عرضي لها يعني عدم احتماليّة الهجوم، إنّما أعالج السّيناريو عسكريّاً:
- خطّة هجومية مزدوجة من هذا النوع تفترض تعاونًا ميدانيًا دقيقًا بين طرفين غير متماثلين عسكريًا (الجولاني لا يمتلك قوة مناورة تقليدية)، وهي مغامرة شديدة التعقيد في ظل بيئة استخبارية لحزب الله تخترق المشهد بالكامل.
- كذلك، فإن دخول قوات إسرائيلية من جهة المصنع، يعني الحاجة للوصول إلى عمق البقاع الغربي يعني تعميق الاشتباك في منطقة مكتظة سكانيًا ومعروفة بتسليحها وانتشار وحدات المقاومة فيها، وهو بمثابة فتح جبهة طويلة تستنزف قدرات الجيش الإسرائيلي في وقت قياسي، فالجيش في غزّة لم يستطع الحسم، كيف وهو يزجّ بمؤلّلاته وجنوده في عمق انتشار وحدات المقاومة؟
ثالثاً: حزب الله بعد معركة "أولي البأس"
بالرغم من الضربات التي تعرّض لها حزب الله في معركة "أولي البأس"، إلا أنّه أظهر مرونة عالية في إعادة الانتشار والتّعافي، واستخدم البيئة الحاضنة كجزء لا يتجزأ من استراتيجيّة الدّفاع، حيث أصبحت البيئة هي بيئة عسكريّة مقاتلة مدافعة عن جغرافيّتها، وهذا كلّه نتيجة تجاوز الضّربة الأولى.
بالإضافة إلى أن استمرار قدراته الصّاروخية والمسيّراتيّة وهذا ما يأخذه العدوّ بالحسبان، أي قدرة حزب الله على ضرب تحشّداته في حال همّ بالدّخول والتّوغّل، وقدرته على الفتح المدروس للجبهات، يثبت أنه لا زال يملك قوة استراتيجية في المنطقة، أي أنّه القادر على توسيع المعركة إلى عمق العدو، إذا ما فُرض عليه سيناريو الحصار أو التهديد الوجودي.
كذلك، فإنّ خبرته الطويلة في إدارة الحرب من جبهات متعددة (سوريا – الجنوب)، تُعطيه أفضلية تفكيك الهجوم المركب، والرد عليه بطريقة لا تُبقي المبادرة بيد العدو.
رابعاً: الفجوة العملياتية: لماذا لا يمكن لفصائل الجولاني أن تحسم في لبنان؟
حزب الله يُقاتل بعقيدة، وليس فقط بسلاح، بينما تعتمد فصائل الجولاني على التكليف الخارجي، والاندفاع المرحلي، بدون بنية استراتيجية طويلة الأمد، ربّما تقول أيضاً بأنّهم يقاتلون عن عقيدة، لكن أثبت الميدان السوري عند اشتداد الوطيس تقهقر هذه المجموعات أمام الزّحف والصمود المقاوم، وأنا هنا بصدد معالجة الموضوع عسكريّاً لا يسعني التّفصيل أيديولوجيّاً.
وبالتالي، فإن غياب التجانس العقائدي واللوجستي في صفوف تلك الفصائل، وعدم توفّر مظلّة لقيادة مركزية متماسكة، سيُضعف قدرتها على إدارة حرب في بيئة تختلف جذريًا عن بيئة الدّاخل السّوري ومحاور قتاله.
المعركة في لبنان هي "معركة وجود"، وهو ما لا تتحمله هذه القوى أمام حزب الله الذي يقاتل في أرضه، ويمتلك العمق الشعبي والعسكري المطلوب.
خاتمة:
إذا كانت معركة السويداء قد كشفت ضعف المشروع الجديد سياسيًا وعسكريًا، فإنّ محاولة استنساخه في لبنان تُعدّ مغامرة ذات كلفة استراتيجية هائلة على إسرائيل وعلى الفصائل المرتبطة بها، لا يُمكن للاحتلال الإسرائيلي أن يفرض منطقة عازلة ممتدة من درعا إلى البقاع، حتى لو سقط النظام في دمشق، لأنّ التاريخ الجهادي لحزب الله، وخبرته الطويلة في تفكيك التكتيك الإسرائيلي، تجعله الرقم الصعب في معادلة الشرق.
إن محاولة خنق حزب الله بين فكي كماشة: هجوم ميليشياوي من الشرق، وزحف إسرائيلي، ستُفجّر المنطقة، وستفرض على حزب الله قرارًا استراتيجيًا بفتح الجبهة في عمق العدو، وهو ما لن تتحمّله "إسرائيل ما بعد أولي البأس".
بالتالي، فإنّ الرهان على إعادة استنساخ تجربة السويداء أو ما شابهها، في بيئة حزب الله، هو انتحارٌ تكتيكيّ واستراتيجيّ على حد سواء.
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع
الكاتب: أحمد علاء الدين