سلسلة من التطهيرات الواسعة تشهدها القيادة العليا لجيش التحرير الشعبي الصيني، طالت كبار الضباط والمسؤولين في أركان القيادة المركزية، في خطوة غير مسبوقة أثارت تساؤلات واسعة حول أسبابها وتأثيرها على جاهزية الصين العسكرية. يسلط المقال الذي نشرته صحيفة "فورين أفيرز" وترجمه موقع الخنادق الإلكتروني، الضوء على خلفيات هذه التطهيرات التي تتراوح بين قضايا الفساد والمحسوبية، في ظل هدف رئيسي يتمثل في ضمان إخضاع الجيش لسيطرة قيادة شي جين بينغ، استعداداً لتحقيق أهداف استراتيجية طموحة، أهمها الاستعداد لما قد يكون أكبر عملية عسكرية في القرن ضد تايوان بحلول عام 2027.
في الوقت نفسه، يرى المقال أن بكين تتخذ حذرها في التخطيط لأي عمليات عسكرية واسعة النطاق. لكن التاريخ العسكري الصيني يوضح أن بكين لا تنتظر الجاهزية الكاملة قبل الدخول في الحروب.
النص المترجم:
تشهد القيادة العليا لجيش التحرير الشعبي الصيني موجة تطهير جديدة وغير مسبوقة منذ مؤتمر الحزب الشيوعي العشرين في تشرين الأول/أكتوبر 2022، حيث اختفى أكثر من 20 ضابطاً رفيعاً من مختلف فروع القوات المسلحة البرية والبحرية والجوية وقوة الصواريخ إمّا من الظهور العلني أو جرى إقصاؤهم من مناصبهم.
الأخطر أن هذه التغييرات مست رؤوس الهرم العسكري في البلاد، حيث أُطيح بثلاثة من أصل ستة أعضاء بالزي العسكري في اللجنة العسكرية المركزية التابعة للحزب الشيوعي، وهي الهيئة العليا المسؤولة عن الإشراف على القوات المسلحة. فقد أُقيل وزير الدفاع لي شانغفو في تشرين الأول/أكتوبر 2023، وتبعها في تشرين الثاني/نوفمبر تعليق مهام مياو هوا، مدير إدارة العمل السياسي في اللجنة، بتهمة "انتهاكات جسيمة للانضباط"، قبل أن يُعزل رسمياً الشهر الماضي. أما التطور الأحدث، فهو ما كشفته صحيفة "فاينانشال تايمز" بشأن هي ويدونغ، نائب الرئيس الثاني للجنة، الذي لم يظهر علناً منذ آذار/مارس الماضي، وتؤكد التسريبات أنه قد تم تطهيره أيضاً.
مؤشرات على صراعات داخلية تزامناً مع أهداف استراتيجية كبرى
لم يسبق أن شهدت اللجنة العسكرية المركزية للصين مثل هذا المستوى من الإقالات خلال فترة زمنية قصيرة، إذ تم إبعاد نصف أعضائها العسكريين تقريباً في غضون عامين فقط. والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن هؤلاء الجنرالات الثلاثة الذين تم تطهيرهم قد تمت ترقيتهم جميعاً من قبل الرئيس الصيني شي جينبينغ نفسه، وتم تعيينهم في اللجنة في عام 2022، بعد أن عزز شي قبضته على الحزب خلال المؤتمر العشرين.
ومن بين هؤلاء، كان هي ويدونغ عضواً في المكتب السياسي، وهو أعلى هيئة صنع قرار داخل الحزب، تضم 24 من كبار قادته. كما وصف المحللون مياو هوا وهي ويدونغ بأنهما ينتميان إلى ما يُعرف بـ "فصيل فوجيان" داخل جيش التحرير الشعبي، نظراً لأنهما خدمتا في تلك المقاطعة في نفس فترة وجود شي هناك، ويُعتقد أن لهما علاقات وثيقة معه.
توقيت هذه الإقالات عالية المستوى ليس عشوائياً ولا يغيب عن أنظار المراقبين الخارجيين، خاصة مع اقتراب عام 2027، الذكرى المئوية لتأسيس جيش التحرير الشعبي. هذا العام يمثل أيضاً الموعد الذي يهدف فيه شي إلى تحقيق قفزات نوعية في تحديث القوات المسلحة الصينية. إضافة إلى ذلك، يشير تقرير سابق لمدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية السابق بيل بيرنز إلى تعليمات شي للجيش بأن يكون "جاهزاً في عام 2027 لتنفيذ غزو ناجح لتايوان". لا يعني هذا أن الغزو سيحدث حتماً في ذلك العام.
أولاً، السبب الشائع وراء العديد من عمليات التطهير هو الفساد المالي. لطالما عانى جيش التحرير الشعبي والحزب الشيوعي الصيني من هذه الظاهرة. منذ وصول شي جين بينغ إلى السلطة في 2012، ضاعفت بكين ميزانيتها الدفاعية أكثر من الضعف لدعم التحديث السريع للقوات المسلحة. هذا التدفق الكبير من الأموال، خصوصاً في مجالات شراء الأسلحة والمشاريع الإنشائية، فتح المجال أمام ضباط ومسؤولي صناعة الدفاع لتضخيم الميزانيات أو اختلاس الأموال.
قبل أن يصبح وزيراً للدفاع، كان لي مسؤولاً عن إدارة تطوير الأسلحة في اللجنة العسكرية المركزية، التي تشرف على عمليات الشراء. قبل إقالته بعدة أشهر، تم توقيف قائد وقائد سياسي في قوات الصواريخ لجيش التحرير الشعبي، بالإضافة إلى نائبين لقائد الشؤون السياسية، ما يشير إلى احتمالية وجود شبكة فساد واسعة في هذا القطاع.
كما أن بعض الجنرالات قد يكونون قد تم تطهيرهم بسبب تورطهم في رشاوى تتعلق بالترقيات وشبكات المحسوبية، وهي مشكلة متجذرة في جيش التحرير الشعبي، حيث غالباً ما ترتقي المناصب بناءً على العلاقات بدلاً من الكفاءة. مياو، رئيس إدارة الشؤون السياسية التي تشرف على التعيينات، قد يكون دفع ثمناً لعدم التزامه بالمعايير المهنية في الترقيات، وهو نفس المصير الذي حل بسلفه زانغ يانغ، الذي خضع للتحقيق في 2017 وتوفي بعدها منتحراً.
قد يكون أيضاً قد تم إقصاء أعضاء اللجنة العسكرية المركزية وكبار الضباط إذا اعتُبروا يستخدمون التعيينات الوظيفية لبناء مراكز قوة شخصية أو ما يُطلق عليه "القمم الجبلية" داخل جيش التحرير الشعبي. الضباط الذين يركزون على تعزيز نفوذهم الشخصي يمثلون خطراً على شي جين بينغ، لأنهم يخلقون ولاءات متضاربة وتوترات فصائلية داخل القوات المسلحة، مما قد يضر بالجاهزية العملياتية.
ونظراً لأن مياو وهي من الأعضاء الجدد في اللجنة العسكرية المركزية، فقد يكونا سعيا لتعزيز مواقعهما على حساب الأعضاء القدامى، مثل نائب الرئيس الأول جانغ يوشيا، صديق الطفولة لشي جين بينغ، والذي استمر في منصبه بالرغم من بلوغه سن التقاعد الرسمي 68 ، وهو الآن في العام 75.
وأخيراً، من المحتمل أن يكون كبار الضباط المطرودين لم يرتكبوا أي مخالفة سوى سوء الأداء أو عدم الكفاءة. قد يكون شي جين بينغ غير راضٍ ببساطة عن أدائهم وفقد ثقته في قدرتهم على قيادة الجيش وتحقيق أهدافه. كما أشار جويل ووتنو وفيليب ساندرز في كتابهما "سعي الصين للهيمنة العسكرية"، فإن طبيعة العلاقة بين الحزب والقوات المسلحة تجعل من الصعب على شي أن يثق بجنرالاته. جيش التحرير الشعبي يتمتع بقدر كبير من الاستقلالية مع إشراف محدود مباشر، لذلك يضطر الحزب للاعتماد على الجيش في مراقبة نفسه.
جاهزون أم لا
لكن التركيز على تأثير الاضطرابات القيادية في جيش التحرير الشعبي على جاهزيته العملياتية لا يجب أن يغفل عن حقيقة أساسية: قد يرى شي جين بينغ أن خوض الحرب ضروري حتى وإن لم يكن الجيش مستعداً بالكامل. فمنذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، عادةً ما تدخل الصين في الحروب حتى في ظل ظروف غير مواتية.
في عام 1950، وبعد جدل طويل بين كبار قادة الحزب، قررت بكين التدخل في الحرب الكورية، مما حول الصراع إلى نزاع بين الصين والولايات المتحدة بشكل أساسي. في ذلك الوقت، كان الحزب الشيوعي الصيني يركز على توطيد سيطرته على البلاد بأكملها وإعادة بناء الاقتصاد بعد الحرب مع القوميين. وكان العديد من كبار القادة العسكريين والسياسيين مترددين في مواجهة أقوى قوة في العالم، لكن المبرر الاستراتيجي لردع الولايات المتحدة عن الحدود الصينية (وإن أمكن عن كامل شبه الجزيرة الكورية) تغلب على هذه المخاوف.
تمثل هذه العمليات العسكرية في كوريا والهند وفيتنام أكبر استخدام للقوة المسلحة قام به جيش التحرير الشعبي منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية. وفي جميع هذه الحالات، كانت الاعتبارات السياسية تتفوق على جاهزية الجيش والظروف الداخلية الملائمة. نظر القادة الصينيون إلى هذه العمليات على أنها ضرورة وليس اختيار أو فرصة. فإذا رأى شي أن اتخاذ إجراء عسكري ضد تايوان ضروري، فسيأمر الجيش بالدخول في المعركة.
المصدر: Foreign Affairs
الكاتب: M. Taylor Fravel